خطبة الإمام علي (عليه
السلام) في وصف المؤمنين
روي أن صاحباَ لأمير المؤمنين(عليه السلام)يقال له همام كان رجلا
عابداَ،فقال:يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى كأني انظر إليهم ،فتثاقل(عليه
السلام)من جوابه،ثم قال:يا همام اتق الله وأحسن فان الله مع الذين اتقوا والذين هم
محسنون.فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه(اقسم)
فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي(صلى الله عليه واله)،ثم قال: أما بعد
فان الله سبحانه وتعالى خلق الخلق- حين خلقهم- غنيا عن طاعتهم ،آمناَ من معصيتهم ؛
لأنه لا تضره معصية من عصاه،ولا تنفعه طاعة من أطاعه.فقسم بينهم معايشهم ووضهم من
الدنيا مواضعهم،فالمتقون فيها هم أهل الفضائل.منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد
ومشيهم التواضع. غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم،ووقفوا أسماعهم على العلم النافع
لهم. نزّلت أنفسهم منهم في البلاء،كالتي نزلت في الرخاء. ولولا الأجل الذي كتب لهم
لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاَ إلى الثواب وخوفاَ من العقاب.عظم
الخالق في أنفسهم،فصغر ما دونه في أعينهم،فهم والجنة كمن قد رآها،فهم فيها منعمون.
وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذبون. قلوبهم محزونة،وشرورهم مأمونة،وأجسادهم
نحيفة وحاجاتهم خفيفة وأنفسهم عفيفة، صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة.تجارةَ
مربحة، يسرها لهم ربهم.أرادتهم الدنيا فلم يريدوها،وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها .
أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا،يحزنون به أنفسهم،ويستشيرون
به دواء دائهم. فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاَ،وتطلعت نفوسهم إليها
شوقاَ وظنوا أنها نصب أعينهم . وإذا مروا بآية فيها تخويف، أصغوا إليها مسامع
قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم فهم حانون على أوساطهم مفترشون
لجباههم واكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم.
وأما النهار فحلماء علماء، أبرار أتقياء،قد براهم الخوف بري القداح. ينظر إليهم
الناظر فيحسبهم مرضى، وما بالقوم من مرض،ويقول: لقد خولطوا!،ولقد خالطهم أمراً
عظيم، لا يرضون من أعمالهم القليل،ولا يستكثرون الكثير. فهم لأنفسهم متهمون،ومن أعمالهم
مشفقون. إذا زُكي احدهم خاف مما يقال له، فيقول:أنا اعلم بنفسي من غيري، وربي اعلم
بي من نفسي!.اللهم لا تؤاخذني بما يقولون،واجعلني أفضل مما يظنون،واغفر لي ما لا
يعلمون .
فمن علامة احدهم،انك ترى له قوة في دين،وحزما في لين وإيمانا في يقين،وحرصا
في علم،وعلما في حلم،وقصدا في غنى،وخشوعا في عبادة، وتجملا في فاقة، وصبرا في شدة،
وطلبا في حلال،ونشاطا في هدى،وتحرجا عن طمع. يعمل الأعمال الصالحة وهو على
وجل.يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر.يبيت حذرا،ويصبح فرحا، حذرا لما حذر من
الغفلة وفرحا بما أصاب من الفضل والرحمة.......إلى أن يقول سلام الله عليه:
نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة. اتعب نفسه لآخرته،وأراح الناس من
نفسه.بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة،ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة،ليس تباعده بكبر
وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة.
قال: فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها.
فقال أمير المؤمنين(عليه السلام)أما والله لقد كنت أخافها عليه.
ثم قال: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها!.
فقال له قائل:فما بالك يا أمير المؤمنين.
فقال: ويحك إن لكل اجل وقتا لا يعدوه، وسببا لا يتجاوزه، فمهلا لا تعد
لمثلها. فإنما نفث الشيطان على لسانك.