سورة العصر
في تسميتها عدة أطروحات:
الأولى: العصر, وهو المشهور.
الثانية: الإنسان, وان كان المشهور أن سورة الإنسان هي سورة الدهر ولا ينبغي تسمية سورتين باسم واحد.
الثالثة: إنها أيضاً سُميت بسورة الخسر, غير أنه ليس بصحيح لأن الانطباع العام فيه فاسد قطعاً, وذلك لأن الإنسان المُعاند ضد الحق, هو الذي يكون في خسر, ولا يمكن أن تكون السورة للخسر. بل ينبغي أن يكون اختيار الاسم محترماً.
الرابعة: السورة التي ذكر فيها الإنسان أو التي ذكر فيها العصر, وذلك على طريقة الشريف الرضي في حقائق التأويل.
الخامسة: ان نسميها باللفظ الأول فيها: [وَالْعَصْرِ] ويُنطق عادة بالكسر لا بالوقف.
السادسة: أن نعطيها رقمها من المصحف الشريف, وهو:[103].
قوله تعالى: [وَالْعَصْرِ].
الواو للقسم، والعصر مُقسم به أو مدخول القسم, وقد كان سيدي الوالد ( يقول: إنَّ الخلق يقسمون بالخالق, والخالق يقسم بالخلق, ويختار لقسمه بعض الأمور العجيبة أو المهمة. وهنا قد اختار الله سبحانه للقسم شيئاً مهماً وله درجة من الاعتبار حسب الحكمة الإلهيَّة وهو (العصر).
سؤال: ما معنى العصر؟.
جوابه: حسب فهمي إن المعاني الأصليَّة في اللغة اثنان:
أحدهما: الزمان في الجملة.
ثانيهما: العصر بمعنى إخراج الماء, وهذا لم يخطر في أذهان المفسرين أصلاً.
ثم ان الألف واللام, إما أن تكون عهديَّة وإما أن تكون جنسيَّة. فإذا التفتنا إلى المعنى الأول وهو الزمان، كان للاستعمال في السورة عدة معان حقيقيَّة أو مجازيَّة:
المعنى الأول: الدهر, بما فيه من عجائب دالة على قدرته تعالى والألف واللام عهديَّة إلى مجموع الدهر.
المعنى الثاني: حقبة من الدهر, وهذا هو الأنسب لغةً, ومعه قد تكون الألف واللام عهديَّة وقد تكون جنسيَّة, فهنا نفرض كونها جنسيَّة ويكون المقصود المعنى المطلق لحقب الدهر.
المعنى الثالث: حقبة معينة من الدهر بالذات, وتكون الألف واللام عهديَّة، كل ما في الأمر أنها ينبغي أن تكون مهمة كعصر النبي ( أو عصر الظهور, أو عصر بني أميَّة, أو عصر الغيبة الكبرى. وأهميته إما لحُسنه وعدله أو لسوئه.
المعنى الرابع: وقت العصر من النهار وله أصل لغوي, ولكن ليس له أهميَّة تذكر, وعليه فتكون تلك قرينة على عدم أرادته وخاصة مع عدم انحصاره، كما هو معلوم.
المعنى الخامس: ما يوجد في وقت العصر من الفريضة المعروفة, أعني صلاة العصر.
وفيه: يحتاج إلى تقدير, والحمل على الحقيقة أولى بطبيعة الحال. فيكون ساقطاً من هذه الجهة.
هذا كله بناء على المعنى الأول وهو الزمان.
وأما إذا التفتنا إلى المعنى الثاني, وهو إخراج الماء لم نجد للمعنى الحقيقي أهميَّة. وإنما ينبغي أن نلتفت إلى المعاني المجازيَّة من حيث أن كل صعوبة بمنزلة العصر. ومن هنا يقال ضغط عليه, أي أحرجه. فبلاء الدنيا نحوٌ من الضغط على المؤمن لكي يتكامل. قال تعالى: [لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ][ (1) ] ، فهذا البلاء يُطهره من الذنوب والعيوب. فكأن الماء الخبيث, يخرج منه ليبقى بعده نظيفاً, طبقا لفطرة الله الأصليَّة [الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا][ (2) ] , وهي طاهرة ما لم تنجسها الذنوب والعيوب. وهذا لا يختلف فيه الحال في الدنيا عن الآخرة سواء قصدنا صعوبات يوم القيامة أو عذاب القبر أو جهنم نفسها. فكلها نحو من الضغط والعصر.
فإن كان المُراد من الألف واللام العهد, كان إشارة إلى بلاء الدنيا, وان كان المراد الجنس, شمل كلا الأمرين. وكلاهما يدلُ على عدل الله وحكمته وتدبيره, وبالتالي يستحق أن يُقسم به الله سبحانه, كما انه أنسب مع الخُسر الموعود به في السورة للإنسان.
ولكن يمكن القول انتصاراً للمشهور الذي فهم الدهر بوجوه:
أولاً: إنَّ فهم الدهر في الجملة حقيقي وفهم الضغط مجازي, والحمل على المعنى الحقيقي أولى.
ثانياً: التناسب بين المعنيين المذكورين: الدهر والضغط من حيث أنه قد يراد من المعنى الأول: الدهر السيئ وعصر البلاء, ويراد بالمعنى الثاني: البلاء الدنيوي فيرجعان إلى محصل واحد.
وكلا هذين الوجهين قابل للمناقشة:
أما الوجه الأول فبأمرين:
__________
(1) سورة الأنفال: الآية 42.
(2) سورة الروم: الآية 30.
الأمر الأول: إنَّ الضغط ليس معنىً مجازياً للعصر بل هو حقيقي وضع له لغةً بنحو الاشتراك اللفظي لا المعنوي.
الأمر الثاني: إنَّ إجراء أصالة الحقيقة خاص بالسامع ولا يشمل المتكلم, فالمتكلم حر في أن يتكلم مجازاً أو حقيقةً, ويكون الأولى في الحكمة هو ما يكون أكثر أداءً للمعنى لا ما يكون متعيناً في المعنى الحقيقي.
فإن قلتَ: فإن وجود القرينة وعدمها هو المحك في تعين الحقيقة من المجاز بالنسبة إلى المُتكلم والسامع معاً.
قلتُ: هذا مع القول بأن المجاز غلط بدون قرينة على المشهور المنصور, إلا أن بعض أساتذتنا أجازه, فليس لا بد للمتكلم أن يلتزم بها.
ولكن محل حديثنا ليس من ذلك؛ لأن الأمر فيه لا يدور بين الحقيقة والمجاز بل بين معنيين من المشترك اللفظي, ولا شك أن استعماله بدون قرينة جائز خلافاً للمشهور.
وأما مناقشة الوجه الثاني, فلأنه مبني على أطروحات معينة ولكنَّها غير متعينة, فلو قصدنا مطلق الدهر أو الدهر الجيد, كعصر النبي (أو قصدنا من المعنى الثاني: البلاء الأخروي,أو ما يشمله... لم يتفق المعنيان, فهو اتفاق مبني على أطروحات معينة وفي مورد واحد. واحتماله ضعيف وخاصة الدهر السيئ.
ويمكن الانتصار للمشهور بكبرى أخرى من حيث أنه تعالى لا بد أن يختار ما هو الأفضل في اللفظ حسب الحكمة الإلهيَّة. وحيث أن قصد الزمان هنا أصلح دينياً واجتماعيا فيكون هو الأولى.
ولكن ذلك مطعون صغروياُ بمعنى إمكان التشكيك في التطبيق على محل الكلام, فإنه مَنْ قال إنَّ استعمال معنى الزمان هنا أولى حسب الحكمة الإلهيَّة؟ فتكون الكبرى غير مُنطبقةٌ على المورد.
سؤال: كيف يكون الإنسان في خسر كما تنص الآية الكريمة, وفيها قسم على ذلك, ولام التأكيد وحرف الجر الذي يدل على أن الإنسان في داخل الخسر, مع أن للإنسان مميزات تدل على انه في نجاة وصلاح وهدايَّة وفطرة سليمة. فكيف يكون في خسر؟.
ومن مميزاته:
1-عقله ورشدهُ.
2- روحهُ العليا التي هي أعلى من الملائكة.
3- نظامه الذي يسير عليه، وخاصة العدل المتمثل بالشرايع السماويَّة عامةً, والإسلام خاصةً.
جوابه: إنَّ ذلك يكون لعدة وجوه محتملة:
الوجه الأول: إنَّ هناك قرينة متصلة تدل على أن المقصود بالإنسان ليس مطلق الإنسان بل بعض حصصه, وتلك هي المحمول: في خُسر, فهو يدل على تحديد الموضوع فمناسبات الحكم والموضوع تدل على ان الإنسان المُتدني في خسر, وليس كل إنسان.
ولكن هذا المقدار غير كاف وان كان صحيحاً كبروياً؛ لأنه يعود إلى القضيَّة التكراريَّة أو القضية بشرط المحمول, وهي ان الإنسان الذي هو في خسر في خسر؛ لأن القرينة (في خسر) وليس الإنسان المُتدني, فرجع الحال إلى التكرار، وسقط الجواب, فتأمل.
الوجه الثاني: هناك قرينة متصلة أخرى بالسورة وهي قوله تعالى: [إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ], يعني إن الإنسان إذا لم يكن كذلك فهو في خسر.
وهذا صحيح إلا انه لا ينبغي الاقتصار عليه؛ لأنه سوف يرجع إلى القضيَّة التكراريَّة أيضاً؛ لأن ظاهر الآية إن الإنسان الخاسر هو من لم يكن قد
عمل الصالحات, والإنسان الخاسر في خسر. فرجع الأمر إلى الدور المضمر لا الصريح كما عليه الوجه الأول.
الوجه الثالث: إنَّ الألف واللام في الإنسان وان كانت جنسيَّة إلا أنه يكفي في الجنسيَّة مطلق الكلي لا الكلي المطلق, فيكفي قصد الحصة منه.
وبتعبير آخر: إن الألف واللام الجنسية تدل على استيعاب مدخولها, ومدخولها قد يكون هو كل إنسان وقد يكون هو بعضه, فتكون القضيَّة بمنزلة المهملة والمهملة بمنزلة الجزئيَّة كما قالوا في المنطق، فكأنه قال: بعض الإنسان في خسر. ولا اقل من الاحتمال المبطل للاستدلال والدافع للإشكال.
إلا أن هنا غير تام أيضاً؛ لأن احتمال أن يكون مدخولها هو بعض الإنسان على خلاف ظاهر القرآن, فسقط الجواب ورجعت القضيَّة إلى قضيَّة موجبة كليَّة, وليست مهملة.
الوجه الرابع: أن نرجع القضيَّة إلى موجبة جزئيَّة بأحد تقريبين:
التقريب الأول: أن نقول: ان مدخول (ال) ليس هو مطلق الإنسان بل هو مقيد بقوله: إلا الذين أمنوا... فيكون ذلك قرينة على أن المراد بعض الإنسان لا كله، وقد سبق الكلام فيه.
التقريب الثاني: أن نقول: إنَّ الألف واللام عهديَّة وليست جنسيَّة, فيرجع إلى بعض حصص الإنسان.
إلا أن هذا وحده لا يكفي؛ لأن ظاهر الألف واللام, والأصل فيها هو كونها للجنس ولا يمكن حملها على العهديَّة إلا بقرائن حاليَّة أو مقاليَّة مفقودة في الآية.
الوجه الخامس: أن نقول: إنَّ الألف واللام مرددة بين الجنس والعهد, فلا تتعين للجنس ليثبت الإطلاق.
وجوابه: إنَّه مبني على أنه لا دليل على إرادة الجنس, مع إن الدليل موجود. فان الظهور الأصلي فيها هو أن تكون جنسيَّة لا عهدية.
ولكن مع ذلك, فأن هناك قرائن حاليَّة أو مقاليَّة تقرب كون الألف واللام عهديه وهي:
أولاً: الإشارة إلى الإنسان المتعارف الذي نراه ونسمعه, قال تعالى: [إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً][ (1) ] , فإن هذا الإنسان متدنٍ عملياً هالك فعلاً؛ لأن 90% من البشر غير مسلمين, و90% من الباقي غير مؤمنين, و90% من الباقي غير مقلدين أو مقصرون وهكذا.
وهذا مطلب في نفسه صحيح.
ثانياً: إنَّ المعهود هو الجيل المعاصر للنبي ( وليس كل جيل متدني, مع العلم إن هذا الجيل قليل بالنسبة إلى مجموع البشريَّة.
ثالثاً: أن نستعمل لغة حساب الاحتمالات, فان أغلب استعمالات الإنسان في القرآن الكريم يراد بها الإنسان المتدني, وعندئذ يمكن أن نُلحق المورد المشكوك ــ وهو محل الكلام ــ بالأعم الأغلب وهو الإنسان المتدني.
قال تعالى: [وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً][ (2) ] , [إنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا][ (3) ],[إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ][ (4) ] ,[ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً][ (5) ] ,[وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا][ (6) ] ,[وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا][ (7) ] , [قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ][ (8) ] , [إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى][ (9) ] ... وغيرها.
__________
(1) سورة الفرقان: الآية 44.
(2) سورة النساء: الآية 28.
(3) سورة المعا رج: الآية 19.
(4) سورة إبراهيم: الآية 34.
(5) سورة الأحزاب: الآية 72.
(6) سورة الإسراء: الآية 67.
(7) سورة الإسراء: الآية 100.
(8) سورة عبس: الآية 17.
(9) سورة العلق: الآية 6.
وهناك موردان فقط في القرآن الكريم يراد به الإنسان المتكامل.
الأول: قوله تعالى: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ][ (1) ] .
ونفهم منها الروح العليا للإنسان, وتلك هي في أحسن تقويم. بل هي أحسن الخلق؛ لأن مزاياها لم تعطَ للملائكة, فضلا عن غيرهم. وبها وصل النبي ( في المعراج إلى محل لم يستطيع جبرائيل سلام الله عليه أن يصل إليه, وقال: لو دنوتُ أنمُلةً لاحترقت [ (2) ] .
الثاني: قوله تعالى: [وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا][ (3) ] . وظاهره: الإنسان الذي يخاف من حصول الزلزلة, غير اننا روينا في كتابنا ما وراء الفقه[ (4) ] : ما يدل على أن المراد بالإنسان هنا هو أمير المؤمنين ( وهو الإنسان الكامل.
سؤال: إنَّ المستفاد من هذه الآية الكريمة: إنَّ القاعدة هو خسر الإنسان إلا ما خرج بدليل, مع العلم ان قوله تعالى: [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ][ (5) ] بالعكس, أعني: نجاة الإنسان بمقتضى طبعه، ولذا تَعجبوا من دخولهم في جهنم. فما هو الوجه في ذلك؟.
جوابه: إنَّ الأطروحات المحتملة ثلاث:
الأولى: إنَّ الأصل هو الخير, ويكون الشر هو المستثنى والطارئ.
الثانية: الأصل هو الشر, ويكون الخير هو الطارئ بعمل الصالحات ونحوه.
الثالثة: إنَّ كلا من الخير والشر أصليان وأساسيان في الخلقة, وأيُّ منهما كان متبعاً كان هو المسيطر على نتيجة الإنسان.
__________
(1) سورة التين: الآية 4.
(2) المناقب لأبن شهر أشوب: ج1, ص155.
(3) سورة الزلزلة: الآية 3.
(4) ج1, ق2, ص320.
(5) سورة المدثر: الآية 42.
وهنا نحاول الاستدلال على الأطروحة الثالثة؛ لتبرز قيمة الوجهين الأولين من الناحيَّة الواقعيَّة. وما يمكن أن يستدل به عدة أمور:
أولا: قوله تعالى: [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ][ (1) ] . إذا فهمنا الهدايَّة التكوينيَّة لا التشريعيَّة, ويكون المراد: إنَّنا ركزنا في ذاته وفي روحه النجدين, أي الخير والشر أو قل: الحق والباطل. وما على الإنسان إلا أن يعصي أحدهما ويطيع الآخر.
وبهذا نجمع بين المضمونين, فتكون الآية التي ذكرت أن الخير هو المركوز صادقة, وهي قوله تعالى: [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ]. وتكون الآية الأخرى أيضاً صادقة, وهي التي دلت على أن الشر هو المركوز. وهو قوله تعالى: [إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ]. فأحدهما ناظر إلى جانب, والآخر ناظر إلى الجانب الآخر.
ثانياً: إنَّ الأصل الأولي للخلقة هي الروح العليا, وهي خير لا شر فيه. فالأصل إذن هو الخير, ولكن هذا الخير يقترن بشر في المرتبة المتأخرة عنه. ولكن ذلك في نفس الوقت متحقق في المرتبة المتقدمة على الحياة الدنيا. فتكون الحياة الدنيا مُبتلاة بخير سابق عنها وبشر أسبق منها, وان كان الخير أسبق في نفسه من الشر.
أما كون الإنسان مخلوق على الخير, فباعتبار الروح العليا, واما كونه على الشر, فبتقريبين:
التقريب الأول: إن الشر لا يحتاج في وجوده إلى عمل الشر, بل يكفي فيه عدم عمل الخير. فإذا لم يعمل الإنسان الصالحات, فهو على شر. فالإنسان إما أن يعمل الصالحات أو يعمل الشر أو لا يعمل شيئاً. فالأول هو الناجي والآخران هالكان. ومحل الشاهد: إنَّ الروح الخيرة الأساسيَّة لا تنفع فإنها لو كانت نافعة لأثرت بحالة الوسط وهي عدم فعل الشر, مع أنه غير كاف في
__________
(1) سورة البلد: الآية 10.
النجاة وإنما ينبغي أن يقترن المقتضى الأساسي للخير, بالمُقتضى الأساسي للعمل, وهو عمل الصالحات لكي تحصل النجاة.
التقريب الثاني: إن الفطرة الأصليَّة للإنسان وان كانت صالحة, فمقتضى الهدايَّة موجود فيه تكويناً, إلا ان المقتضى لا يؤثر الا مع عدم المانع, وهو مواكبة العمل مع الفطرة. وأما إذا حصل المانع لم تحصل النجاة؛ ولذا قيل: [مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ].
وهذا مانع عدمي يعني: إذا لم يعمل فهو على شر, ولا يتعين أن يعمل الشر. مضافاً إلى ارتكاز الشر أيضاً في نفسه, فالمانع أصلي أيضاً. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة:[إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ].
سؤال: لماذا أستُعمل حرف الجر: في قوله: [فِي خُسْرٍ], ولم يقل: على خُسرٍ أو لخُسر مثلا, ولماذا لم يقل: إنَّ الإنسان خاسر؟.
جوابه: إنَّ [فِي] هنا ابلغ وذلك, لأنه دخل في الخسر والخسر مسيطر عليه وليس مجرد أنه خاسر أو على خسر. وبتعبير آخر: إنَّ ذلك للتركيز: بأن الإنسان في باطن الخسر, حقيقة أو مجازا. لكي تكون له الهمة أن يفتقه ويخرج منه.
سؤال: لماذا أستعمل كلمة: [خُسرٍ] نكرة لا معرفة؟.
جوابه: إنَّ فيه عدة وجوه من الفهم:
الوجه الأول: أن يراد به الجنس فكأنه قال: في الخسر. فإن أسم الجنس كالجمع في المعنى, إلا أنه لا يتم؛ لأنه خلاف الظاهر, لاحتواء الكلمة على تنوين التنكير أو تنوين الوحدة، وكلاهما ضد معنى الجنس.
الوجه الثاني: ان يراد به خسر إجمالي لعدم تعينه, كأنه أراد أن يقول: إن هناك خسر ما سيكون أمامك لا حاجة إلى إيضاحه.
الوجه الثالث: أن يراد به خسر ما حسب الاستحقاق, فأن كل فرد غير صالح يستحق نوع من الخسر حسب نوعيَّة السوء في عمله. ولكل عامل خسره الذي يستحقه في علم الله.
الوجه الرابع: أن يراد به خسر واحد, ولكنَّه متشابه ومشترك بين الجميع وهو خسران النفس, قال تعالى: [الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ][ (1) ] , وقال: [قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ][ (2) ] . وهذا معنى مكرر في القرآن الكريم. وقد أنتبه إليه صاحب الميزان ([ (3) ] .
فإن قلت: كيف يخسر الإنسان نفسه, مع أن نفسه لا تزول ولا تتبدل سواء كان في الجنة أو في النار.
وجوابه: إنَّ الفرد إذا مشى في طريق الحق واليقين, فهو يربح نفسه. كما ورد[ (4) ] : من عرف نفسه فقد عرف ربه, وذلك بأن يعرف نفسه الحقيقية وروحه العليا. وأما إذا مشى في طريق الدنيا والشهوات فإنه يخسر نفسه, أي يبقى جاهلاً بحقائق نفسه وروحه وملكاته الواقعيَّة.
وشيء آخر ينفع للإيضاح في المقام, وهو بعض الماديين قالوا: إن تبدل الإنسان من شخصيَّة إلى شخصيَّة أو قل: من أسلوب حياتي إلى أسلوب حياتي آخر صعب بمنزلة المستحيل, وأنا أعتقد انه صعب وليس بمستحيل, فالذي يغير عمله تتغير شخصيته بالتأكيد فيكون معنى الذين خسروا أنفسهم, أي خسروا جانب الصلاح في أنفسهم. أو قل: الشخصيَّة الصحيحة والحقة والتي تتصف بالإخلاص واليقين.
__________
(1) سورة الأنعام: الآية 12, والآية 20.
(2) سورة الأعراف: الآية 53.
(3) الميزان: ج20, ص356.
(4) البحار: ج2, ص32, عن مصباح الشريعة.
الوجه الخامس: ما أختاره صاحب الميزان[ (1) ] من أنه جُعِلَ نكرة للتهويل والتعظيم, يعني إنه لو كان بالألف واللام لما أفاد ذلك.
وهذا قابل للمناقشة؛ لأن التنكير نص أو كالنص بالوحدة فيكون ظاهراً, بما تقتضيه الجزئيَّة أو المهملة على الأقل. ومن الواضح أن الموجبة الكليَّة أهم منها؛ لأن محصلها انه حائز على كل خسران فيكون أعظم واشد هولاً.
وبتعبير آخر: إنَّ التنكير لا يراد به الجنس بل الواحد. وهذا يحتاج في تتميمه إلى ضم فكرة أخرى نقول: إنَّ الخسر الواحد أهم من الخسر المتعدد, وهذا غير معقول, فأين التهويل والتعظيم؟ فهذا الوجه ساقط, فلو كان هو الوجه الوحيد كان على خلاف الحكمة.
سؤال: الاستثناء المذكور في السورة, وهو قوله تعالى: [إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ][ (2) ] ، لا يدل على أن المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات في ربح. مع أن الاستثناء إنما سيق لمدحهم ببيان مضادة حالهم لحال من لم يتناوله الاستثناء, فكيف حصل ذلك؟.
جوابه: إنَّ الاستثناء وأن لم يدل بصراحة على أنهم رابحون, ولكن اتصافهم بتلك الصفات الأربعة الشريفة يدل على أنهم في أعظم ربح, مع أننا لو فرضنا أنهم ليسوا بربح, فالمضادة حاصلة أيضاً؛ لأنهم ليسوا في خسر بمقتضى الاستثناء.
وبتعبير آخر: إنَّ المدلول اللفظي ليس إلا استثناؤهم من الخسر, وليس لبيان أنهم في ربح. كل ما في الأمر إنه يمكن أن نستدل على أنهم في ربح بوجوه:
__________
(1) ج20, ص356.
(2) سورة الشعراء: الآية 227.
أولا: لما قاله هناك من اتصافهم بهذه الصفات العظيمة وهي أنهم: [آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ].
ثانياً: الملازمة في الارتكاز المُتشرعي بين عدم الخسران والربح؛ لأن الأمر دائر بين الثواب والعقاب أو بين دخول الجنة ودخول النار ولا وسط بينهما, فإذا لم يكونوا في خسر بمقتضى الاستثناء فهم في ربح.
ثالثاً: إنَّ هذه الأعمال مقدمة للربح, والله تعالى أكرم من أن يحجب عنهم مطلوبهم فيكونون رابحين لا محالة, وهذا هو الأقرب إلى ظاهر الآية؛ لأنها واضحة في إعطاء الطريق والمنهج للخروج من الخسر الأساسي إلى الربح الأساسي وانحصار الطريق به, وهذا هو هدف السورة.
سؤال: ما معنى الحق, في قوله تعالى:[وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ]؟.
جوابه: معناه أحد أمور:
الأمر الأول: إنَّه عمل الصالحات المشار إليه بالآية ويكون قرينة عليه.
إن قُلت: إذن يكون بمنزلة التكرار.
قُلت: كلا؛ لأن القصد يختلف في الجهتين. فالأول: العمل لنفسه والآخر: الايصاء لغيره بالعمل الصالح.
الأمر الثاني: إن الصالحات عمل الظاهر, والحق عمل الباطن.
الأمر الثالث: إنَّ الصالحات هو الطاعة, والحق هو التشريع العادل, الذي جاء به الإسلام.
الأمر الرابع: إنَّ الصالحات هو فروع الدين, والحق هو أصول الدين.
الأمر الخامس: إنَّ الصالحات هو الطاعة, والحق هو التوحيد الخالص.
الأمر السادس: أن تكون الباء للسببيَّة, مثل قوله تعالى: [مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ][ (1) ] . فيكون معنى الآية إن التواصي يكون بعليَّة الحق
__________
(1) سورة القلم: الآية 2.
وتسبيبهِ وهو الله سبحانه, وأما مضمون التواصي فمحذوف, يدل عليه ما قبله وما بعده.
الأمر السابع: أن نفهم الحق مقابل الحكم, فالحكم ما على الإنسان أن يفعله, أي ما أُمِر به شرعاً. وأما الحق فهو متعلق بالغير من أحكام ارفاقيَّة بالنسبة إلى ذي الحق, فما تعلق بالفرد حكمٌ وما يتعلق بالغير حقٌ.
سؤال: قوله تعالى: [الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] مكرر كثيراً في القرآن الكريم, ولكنَّه في هذه السورة مقيد بقوله: [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] فما هي الحاجة إلى التقيد بالتواصي؟.
جوابه:انه ينبغي أن يكون ذلك واضحاً؛ لأننا قلنا: إنَّ عمل الصالحات لنفسه والتواصي بالحق لغيره, ولذا نبه عليه بخصوصه. وهذا كما ينطبق على الظاهر ينطبق على الباطن, كما ورد عنهم ([ (1) ] : إنما الأعمال بالنيات. وورد[ (2) ] : نيَّة المؤمن خير من عمله ونيَّة الكافر شر من عمله, إذن فالأمر الأساسي هو نظافة الباطن, وبأيِّ معنىً فسرنا الحق يكون المطلب ضرورياً.
والحق وحده لا يكفي, ولكن الاستقامة والصبر ضروري؛ لأن عدمه يلازم عدم الحق. فالصبر معناه استمرار الحق إلى الموت, ولذا ورد عنهم ([ (3) ]: عليكم بالصبر, فان الصبر من الأيمان كالرأس من الجسد ولا خير في جسد لا رأس فيه ولا في إيمان لا صبر معه.
فإنَّ الذي يجزع من البلاء الدنيوي, أو من الارتداع من المحرمات, فإنه يكون مرتكباً للمعاصي لا محالة, وإذا جزع من الطاعات أصبح تاركاً لها, فيؤول الأمر إلى الباطل والفسق, [بِئْسَ الإسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ] [ (4) ] .
__________
(1) الوسائل: ج1 , ص33.
(2) المصدر: ص35.
(3) نهج البلاغة: ج4, ص18, شرح محمد عبده.
(4) سورة الحجرات: الآية 11.
ومعه فينبغي أن يستقيم المؤمن ويصبر ويصمد إلى حين موته, لكي يحشر على المستوى الذي مات فيه, فإنَّ الفرد يحشر على المستوى الذي مات فيه إن حقاً فحق وإن فسقا ففسق, ولا يفيده إنه كان مؤمناً سابقاً, ولكنه مات فاسقاً, فإنَّ هذا من الإيمان المستودع, قال تعالى: [وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] [ (1) ] .
والعمل الشخصي والصبر الشخصي لا يكفي, بل لابد من (التواصي) بأن يوصي بعضهم بعضاً عن طريق الموعظة والتحذير والتذكير. ونستطيع أن نتصور مجتمعاً خالياً من ذلك, فكم سيكون فاسداً ومُتدنياًُ ويكون أفراده في خسر لا محالة.
قال في الميزان [ (2) ] :التواصي بالحق أوسع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, لشموله الاعتقاديات ومطلق الترغيب والحث على العمل الصالح.
أقول: إن قلتَ: إنَّ التواصي بالصبر مُستحبٌ؛ لأنَّ الأمر بالمستحبِّ مستحبٌ.
قلتُ: الطعن بالصغرى؛ لأن الصبر واجب لأننا إذا رفعنا الصبر كان اعتراضا على الله تعالى, ويلزم منه ترك الواجب وعمل المحرم, فيكون واجباً.
نعم, يكون الصبر في بعض درجاته مستحباً, فلا يكون الأيصاء به من الأمر بالمعروف الواجب, غير أن المجموع من المستحب والواجب يكون مستحب؛ لأن النتيجة تتبع أخس المُقدمات, فيكون التواصي أعم من الأمر بالمعروف وبينهما نسبة العموم والخصوص المطلق.
ولكن نقول: إنَّ بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه, فمحل اجتماعهما هو أغلب الطاعات, ولكن قد لا يكون التواصي أمراً بالمعروف, كما
__________
(1) سورة هود: الآية 6.
(2) ج20, 357.
لو كان أمراً بالمستحب أو أمراً مستحباً, كما يحصل عند عدم اجتماع شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد لا يكون الأمر بالمعروف تواصياً؛ لأنَّ التواصي إنما هو فيما إذا أوصى بعضهم بعضاً, من باب التفاعل بين الطرفين, وأما إذا كان الأمر بالمعروف من طرف واحد فليس تواصياً, بل يصدق السلب من هذه الجهة. فيكون أمراً ولا يكون تواصياً فيكون هذا مورد الانفكاك من هذه الجهة.