«حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»
لما كان تفضيل الآخرة على الدنيا من الاُمور الجليّة لدى المؤمنين، فكيف تصيب الغفلة الإنسان المؤمن فيقع في فخ الخطايا والذنوب؟!
ويكمن الجواب في جملة واحدة: عند غلبة الشهوات على وجود الإنسان ومصدر قوّة الشهوات هو: حبّ الدنيا.
يتضمّن حبّ الدنيا: حبّ المال، المقام، الشهوة الجنسية، حبّ التفوق، حبّ الذات، وحبّ الإنتقام...الخ.. وإذا ما غلب هذا الحبّ على وجود الإنسان فسيهتز كيانه بإعصار شديد ولا تستطيع كلّ معارف وعلوم وعقائد الإنسان من أن تقف أمام جموحه، حتى يصل الإنسان لفقدان قدرة التشخيص، فيقدم بالنتيجة الدنيا على الآخرة.
فـ «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» أمر محسوس ومجرّب في حياتنا وحياة
الآخرين وهو دائم الوقوع أمام ناظرينا.
وعليه.. فلا سبيل لقطع جذور المعاصي إلاّ بإخراج حبّ الدنيا وعشقها من القلب.
ينبغي علينا أن ننظر إلى الدنيا بواقعية وعقلائية، فالدنيا ليست أكثر من مرحلة إنتقالية أو معبر أو مزرعة الآخرة، فما يبذر اليوم يحصد غداً، ولابدّ للإنسان أن العاقل ن يختار الطريق الذي يوصله إلى الهدف المنشود فيما إذا وقف بين مفترق طريقين، واحد يؤدي للحصول على متاع الدنيا الزائل، والآخر يوصل إلى نيل رضا الباري سبحانه وتعالى.
ونظرة ـ وإن كانت سريعة ـ إلى ملفات الجرائم سترينا واقعية الحديث المذكور، وإذا ما تأملنا في بواعثها الحقيقية، فسيتوضح الحديث أكثر فأكثر.
ولا تخرج علل الحروب وسفك الدماء (حتى بين الاخوة والأصدقاء) عن هذا الإطار المهلك (حبّ الدنيا).
فكيف النجاة، وكلنا أبناء هذه الدنيا و«لا يلام الولد على حبّه لاُمه» كما جاء عن أمير المؤمنين(عليه السلام)؟!
إنّ زورق النجاة من تلاطم أمواج وهيجان حبّ الدنيا لا يبنى إلاّ بالتربية الفكرية والعقائدية، ومن ثمّ تهذيب النفس ومجاهدتها، بالإضافة إلى الإعتبار من عواقب عبدة الدنيا.
فما كانت عاقبة الفراعنة مع كلّ ما كان لهم من قوّة؟! وأين هو الآن قارون وكنوزه التي لا يقدر مجموعة من الرجال على حمل مفاتيحها إلاّ بشقّ الأنفس؟! وأين هو الهدام بعدما ظن إنه قد ملك الدنيا و أهلها وحتى القوى المتسلطة في عصرنا المعاش(الثالوث المشوؤن و أذنابه)، ليس لهم سوى فترة زمنية محدودة، فترى عروشها تتهاوى، وهم بين فار ومختبىء في أقذر المكانات وبين مَن سيلفه التراب، لينتقل بعدها إلى العالم الذي كان يكذّب وجوده.. أو ليس ذلك أفضل واعظ لنا؟!
و سئل الإمام علي بن الحسين السجاد (عليهم السلام) عن أيّ الأعمال أفضل عند اللّه؟
قال: «ما من عمل بعد معرفة اللّه عزّوجلّ ومعرفة رسوله أفضل من بغض الدنيا، فإنّ لذلك لشعباً كثيرة، وللمعاصي شعب.
فأوّل ما عصي اللّه به «الكبر»، معصية إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين، ثمّ «الحرص» وهي معصية آدم وحواء حين قال اللّه عزّوجلّ لهما: (كُلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) فأخذا ما لا حاجة بهما إليه، فدخل ذلك على ذريتهما إلى يوم القيامة، وذلك إنّ أكثر ما يطلب ابن آدم ما لا حاجة به إليه، ثمّ «الحسد» وهي معصية ابن آدم حيث حسد أخاه فقتله، فتشعب من ذلك حبّ النساء، وحبّ الدنيا(1)، وحبّ الرئاسة، وحبّ الراحة، وحبّ الكلام، وحبّ العلو والثروة، فصرن سبع خصال فاجتمعن كلّهن في حبّ الدنيا، فقال الأنبياء والعلماء بعد ذلك: حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»(2).
اللّهم، اخرج حبّ الدنيا من قلوبنا..
اللّهم، خذ بأيدينا إلى صراطك القويم، وأبلغنا مغرمنا..
اللّهم، إنّك تعلم الجهر وما يخفى، فاغفر لنا ما ظهر من ذنوبنا وما خفى..
آمين يا ربّ العالمين
--------------------------
تفسير الأمثل-الشيخ مكارم شيرازي
1 ـ مجمع البيان، ج10، ص746.