تفسير باطني لآية المائدة -2
القسم الثاني
أعوذ بالله من الشيطان اللعين الرجيم
توكلت على الله رب العالمين
وصلى الله على خير خلقه محمد وآله أجمعين
بسم الله الرحمن الرحيم
كأنه بعض النفوس راغبة بالاستمرار بشرح الآية الكريمة.
الخطوة الأولى التي ينبغي أن نتخذها الآن، إننا فهمنا أن المسألة لا تخص الحواريين, وإنما تخص الاستحقاق, بل كل شخص مستحق تنزل عليه الهبات الإلهية، معنى ذلك أن الحواريين عبارة عن أصحاب مرتبة معينة من الكمال معلومين عند الله، نحن لا نعلم كمال تلك المرتبة كل من يصل إليها يمر بمثل هذه التجربة ــ لو صح التعبير ــ .
الآن نتحول إلى طرف ثاني, وهو أن عيسى بن مريم ( أيضاً نجرده عن الخصوصية, كما جردنا الحواريين عنها، كذلك عيسى بن مريم ( أيضا نجرده عنها، لأنه نستطيع أن نقول: إنه أستاذهم أو موجههم أو هاديهم أو شيخهم باصطلاح السلوكيين، ونحن نعتبر أن كل هذا ليس في الإنسان في نفسه, وإنما في باطن النفس أكون مسؤولاً عن تعيين الأشخاص، لأن النفس فيها ملكات متعددة فكل واحد منها ممكن أن نسميه بهذا الاسم.
الخطوة الأولى هنا: إننا نفهم من مريم درجة من درجات النفس التي تسمى عادة بالنفس الأمّارة بالسوء, وليست كلها أمّارة بالسوء, أو قل هي ليست أمّارة بالسوء فقط. وإنما للنفس عمل كثير, منه: الأمر بالسوء, فقد تكون النفس طيبة وصالحة الى حد جيد فتكون مريم,أما تمثيلها بالمرأة فواضح؛ لأن النفس عبارة عن مجموعة الشهوات والفعاليات الدنيوية, وقوام كيان المرأة على ذلك.
وتمثيلها أيضا بمريم من ناحية أخرى, وهو صلاحها ينتج من النفس أحياناـ أيضا بفضل الله سبحانه وتعالى ــ كمال معين أو ملكة معينة متكاملة, ليست متكاملة مطلقا, وإنما متكاملة الى حد يحس به صاحبه. فيكون ابن هذه النفس عيسى بن مريم. ورب هذا المجموع هو العقل ــ بطبيعة الحال ــ الذي هو أعلى هذه المستويات كلها, العقل المجرد المتكامل لدى الفرد, هذه واحدة.
والحواريون مَنْ هم؟!
مجموعة ملكات متدنية ــ نستطيع أن نسميها متدنية نسبيا في النفس ــ فلذا هم بتدنيهم, أنفسهم فيها وسواس ومشاكل أخرى تؤدي الى تدنيها وبها قالوا: [هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ],
الكلمة تصدر من مثل هذا المستوى, فيطلبون من الجهات المتكاملة من النفس, أن تطلب من العقل, أن يطلب من الله, تنزيل هباته الخاصة, والكل يستفيد طبعا, النفس بمجموعها بكل ملكاتها تستفيد من الهبات الخاصة, فاستطعنا أن نجرد الخصوصية بشيء آخر.
الخطوة الأخرى: إننا نقول مهما فسرنا الحواريين وغيرهم, إن العطاء ينزل بالاستحقاق. مع وجود الاستحقاق تأتي عبارة الشيخ المظفر التي اذكرها باستمرار: (الله تعالى كريم لا بخل في ساحته), فإذا وجد الموضوع مستحقا يفيض عليه ــ هو طبعا يقوله في الأمور التكوينية ــ إن العلة حينما تتم يطلب المعلول بلسان حاله الوجود وهو تام الاستحقاق باعتبار أنها العلة تامة, و (الله تعالى كريم لا بخل في ساحته). تأتي هذه الكلمة أكيد, وهذا صحيح ــ وهو أيضا (قادر لا قصور في قدرته, وعالم لا قصور في علمه). فينهي المطلب كله من جميع الجهات فيفيض علية الوجود ــ أي على المعلول ــ فيوجد, استجابة للدعاء الواقعي بلسان الحال، نفس الشيء يكون بالنسبة إلى الاستحقاق كل استحقاق هو هكذا, وليس فقط استحقاق المعلول لوجود العلة, أو قل كل هذه الأشياء هي من سنخ المعلولات أما مادية معنوية, فيفيض عليهم.
إذن, ما الحاجة إلى دعاء عيسى بن مريم هو هذا السبب كافي, هو إننا نتقي الله, والتقوى هي مجلبة أو السبب أو المقتضى لأجل الإفاضة, هذا سبب كافي وانتهى الحال لا حاجة إلى الدعاء الزائد، لأن (الله تعالى كريم لا بخل في ساحته) بتعبير آخر (علمك بحالي يغني عن مقالي) وانتهى الحال, بالحقيقة جواب ذلك له احد تفسيرين :
تقريباً هذا تفسير متدني ويوجد تفسير أعلى منه.
التفسير المتدني يقول: إن الاستحقاق هنا منتفي في هذا المورد منتفي ــ صح كبرويا الفيض يلحق الاستحقاق ــ لكن هنا لا يوجد استحقاق لماذا؟ لأنه يقول [اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] وهذا واضح في الدلالة السياقية, نستطيع أن نسميها أنهم ليسوا مؤمنين, أو جلة منهم ليسوا مؤمنين فإذا كانت المقدمة غير موجودة, فالنتيجة أيضا غير موجود، فإذا كان الأيمان غير موجود, فالتقوى غير موجودة, وإذا كانت التقوى غير موجودة, الإفاضة غير موجودة, إذن هذا الباب انسدَ، فانفتح الباب الثاني وهو الدعاء، الطلب إلى المعجزة لطفاً بغير استحقاق.
جيد في النهاية الله لاستحقاق عيسى بن مريم يفيض على الحواريين, وهذا له باب وجواب, هذه واحدة.
والجواب الثاني: إننا نوحد ــ شيء معقول ويمكن استشفافه أو نأخذه من عبارة الشيخ المظفر ــ إن المعلول يطلب بلسان حاله الإفاضة، فالاستحقاق هو الدعاء, هذا هو عينه ليس شيئاً آخر, فان لم يكن دعاء
باللفظ فهو الدعاء بلسان الحال, وهذا جدا كاف سبحان الله ليس هناك شيء من الباطن قابل للإنكار.
أريد أن أذكركم بهذا الشيء الموجود:
السيد الحكيم (قدس الله روحه الزكية) في مبحث بطون القرآن في شرح كفاية الأصول, لابد كلكم رأيتموه[ (1) ], إن شيخ فلان ـــ ما أعرف اسمه ــ قال: لأنه شهر رمضان تعطيل [ (2) ], فلا بأس بشيء من التفسير فقال : أنا اشرح لكم آية من الآيات التي اذكرها، فحضر في بحثه فضلاء الحوزة يومئذٍ أذكر منهم اثنين لعله أفضلهم السيد إسماعيل الصدر والشيخ ألنوري صاحب المستدرك، فشرح الآية ــ أول ليلة ــ فاستوضحوه,أي: المعنى, يعني وجدوه، وعجبوا من عدم انتقالهم اليه.
فضلاء, ومشار إليهم بالبنان, الا أنهم أهل غفلة وذهول عن الأمور الباطنية, وعجبوا من عدم انتقالهم اليه.
ثم أتى في الليلة الثانية بيَّن معنىً جديدا لنفس الآية, استوضحوه أيضا, وعجبوا من عدم انتقالهم اليه.. وهكذا إلى ثلاثين ليلة، ثلاثون باطن متدرج, بيّنها لهم لاستحقاقهم. هو يدري أن هؤلاء مستحقين لمثل هذه العطايا, فكان هو واسطة فيض من الله سبحانه وتعالى إليهم.
أما ما هي هذه المعاني, لا احد يعلمها, ولا تُبلغ إلى الناس, بل حرام أن تُبلغ إلى الناس, لأنهم ليسوا على استحقاق لها, لم تُكتَب ولم تُنشر أصلاً, لأن الأئمة أعطونى رأس الخيط، إن القرآن له سبع بطون أو سبعين بطنا [ (3) ], أما انه وراء هذا المطلب ما هو ؟ لا نستطيع أن نحصل عليه, دونه خرط القتاد [ (4) ] .
[قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا] هذه الخطوة الأخرى, طبعاً إضافة إلى ما قلناه [وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا], وهذا شرحناه.
[وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ], كأنما الشهادة وظيفة ــ نستطيع أن نقول ــ ضرورية في الكون, فلذا [وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً][ (5) ], أن تكونوا شهداء على الخلق, أي المؤمنون شهداء على الخلق, هو يقول شهداء على الخلق, ويكون الرسول عليهم شهيدا, أعلى منهم بمراتب, فيكون الرسول حينئذٍ الشهيد على الشهيد, الشاهدَ على الشاهد.
__________
(1) الكلام موجه لطلبة الحوزة العلمية.
(2) المعروف في الحوزة العلمية توقف الدرس والتدريس في شهر رمضان وخاصة في المواد المنهجية فيعمد بعض العلماء وأصحاب الفضيلة الى تدريس بعض المواد التي لا تعتبر منهجيه كالتفسير والأخلاق وغيرها .
(3) انظر الكافي: ج2, ص599, باب فضل القرآن , حديث 2.
(4) الخرط: تقشير الورق عن الشجرة اجتذابا باليد, والقتاد: شجر له شوك أمثال الإبر. والمثل يضرب للأمر دونه مانع.
(5) سورة البقرة: الآية 143.
فالشهادة ضرورية تؤدى بالآخرة حينما يقف الخلق بين يدي الله, بمعنى من المعاني يؤدون الشهادة الى الله سبحانه وتعالى, إن فلانا فعل كذا وفلانا فعل كذا, فلان ترك وفلان فعل وفلان قال ... الخ , حينئذٍ هذه الشهادة عامة. و نستطيع أن نقول: كما أن الرحمة عامة وخاصة, كذلك الشهادة عامة وخاصة. فهذه الشهادة عامة, لكن يوجد شهادات خاصة: كلكم راع وكلكم مسئوول عن رعيته [ (1) ] , كذلك [يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ][ (2) ].
طيب, هذا الراعي أو الإمام نستطيع أن نقول أنه شاهد على مأموميه, لكن ليس على كل الخلق بل على مأموميه. أي, المعتقدين به والتابعين له, ربما حتى السيد محمد الصدر يبتلي بالشهادة في يوم ما أمام الله عليكم أو على أي واحد.
ــ محل الشاهد ليس هذا ــ فهذه شهادة خاصة, يخطر في بالي رواية من زمان رأيتها: ( يأتي شخص ــ بحسب مضمون الرواية ــ الى أمير المؤمنين عليه السلام فيقول له: أنا من أصحابك, فيقول له: أنا ما أعرفك ولو كنت من أصحابي لعرفتك ــ ما مضمونه ــ فلا يدخل ضمن الشهادة ), لأنه لا يعرفه أي ليس شاهدا عليه , لأنه حقيقة في علم الله وثبوتا ليس من أصحابه , فالشهادة الناتجة من الإمامة ومن الولاية ومن التبعية غير موجودة, نعم أمير المؤمنين شاهد بمعنى عام أكيدا.
فهذا المورد من موارد الشهادة خاصة إن [وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ] نزلت هكذا, وإذا شهدوا في الحقيقة يترتب عليها آثار وضعية طبعاً,أي أمام الله سبحانه وتعالى من قبيل أن ردود فعلهم تجاه شهادتهم ما هي, وتجاه المشهود عليه ما هي، فلذا يقول: [فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً], مرة ردود فعل صالحة, ومرة ردود فعل طالحة غير مرضية لله سبحانه وتعالى, ومرة شكر, انه ربي خير ما فعلت شكراً لك أنزلت علينا هذه الهبة, ومرة لهو وغفلة, يأكلوها وينسون, كما هو اغلب الناس, وكذلك شأن النفس, طبعاً هي كذلك، فإذا كان وفسرنا الحواريين بالنفس, فالنفس تأكلها وتنسى اعتيادي.
وقد يكون كفراً , إما شكر, إما وسط, إما كفر, أي كفر بالنعمة.
قال عيسى بن مريم يدعو: :[اللَّهُمَّ رَبَّنَا], سبحان الله لاحظوا هم قالوا : [هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ] هو قال:[اللَّهُمَّ رَبَّنَا] ما قال ربي بطبيعة الحال الحق معه، لأن الروح العليا وان كان فيها فائدة, لكن إنما تفعل بإرادة الله, الذي هو رب العالمين, الذي هو ربها ورب العالمين, وأنا حينما اطلب ــ وان كانت العبارة غير لطيفة ــ
__________
(1) انظر بحار الأنوار: ج72, ص38.
(2) سورة الإسراء: الآية 71.
(حينما أجدي ، ما أجدي)[ (1) ] من روحي, وإنما اطلب مباشرة من الله الذي هو لا نهائي القدرة, ولانهائي العلم, إنما روحي مهما كانت فهي محدودة في حين إني لابد أن اطلب من غير المحدود مباشرة.
هم قالوا: [هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ] كأنما هذا حد إدراكهم, وهذا مبلغهم من العلم, لكنه هو (أي عيسى () لا، مبلغه له من العلم أكثر مما لديهم, مباشرة اتجه إلى الله سبحانه وتعالى: [اللَّهُمَّ رَبَّنَا ــ الذي هو رب الجميع ــ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ].
طبعاً معنى ذلك ماذا ؟ هذا أيضا ينبغي أن نلتفت اليه, وان نستفيد منه في الحقيقة, وهو أن الدعاء لا يكون الا لمصلحة إذا كان الإنسان واعيا , واعيا إلهيا, يعني: لا يدعو الا لأجل مصلحة حقيقية, وإلا خير له أن يغلق فمه.
الدعاء طبعا بهذا المعنى إذا كان من العوام أو من شخص اعتيادي, سوف يتخذ دعاءه نحو اعتراض على الله سبحانه وتعالى,لماذا هكذا هذا الشيء أنا أريد أن تغيره , أو إرادة ما لا يريده الله سبحانه وتعالى, وهذا هو من الشرك الخفي المبتلي به كل الناس, فالدعاء لا يكون الا لمصلحة حقيقية,وبتعبير آخر إذا كان على هذا المستوى من الارتفاع على مستوى الأنبياء والمعصومين, يحتاج إلى إذن من الله سبحانه وتعالى, انه انتم ادعوا.
وإلا أنا افعل وأنت لا تريد ــ جل جلالك ــ ليس له معنى, إنما يفعل ما يريد الله [وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى] (2) فقد شفع له، إذن, المسألة مرضية لله سبحانه وتعالى, أما أن نقول هم مرضيين على احد التفاسير, وأما أن نقول الدعاء مرضي لله سبحانه وتعالى, وإلا لم يكن من مورد الدعاء, ولا اقل أن نقول إذا تنزلنا عن ذلك: انه وجود مصلحة في الدعاء بعد إقامة الحجة على الحواريين اللذين بحسب ظاهر الآية إنهم ليسوا مؤمنين, أو قليلي الإيمان, أو قليلي اليقين.
وعلى قلة اليقين تخطر في بالي رواية لأمير المؤمنين (:
جاءه شخص اشتكى اليه الحاجة فقال له : احضر لي حجارة من الأرض، فقال له أمير المؤمنين :( حولها ذهباً, قال: يا أمير المؤمنين لا استطيع أن أحولها إلى ذهب. فقال له : اقسم عليها باسمي, فاقسم عليها باسمه فتحولت ذهب، فقال له : اقطع منها حاجتك, فقال له : لا استطيع أن اقطع منها حاجتي - حجر وتحول إلى قطعة معدن كيف تقطع – فقال له : لا استطيع أن اقطع منها حاجتي، فقال له : أقسم عليها باسمي, فاقسم عليها باسمه واخذ
__________
(1) كلمه عاميه معناها: استعطي.
(2) سورة الأنبياء : الآية 28.
حاجته ووضعها في جيبه فقال له: أرجعها صخرة. فقال له : أنا لا استطيع أن أرجعها، فقال له : يا قليل اليقين أقسم عليها باسمي, فاقسم عليها باسمه وألقاها على الأرض. طبعاً رجعت حجر فرماها، فـ(يا قليل اليقين) بالتأكيد قليل اليقين هذا الرجل.
[اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا]:
والسؤال هنا: لماذا عيَّن عيسى بن مريم المصدر لله سبحانه وتعالى, أن يكون من السماء رزق, من أين يريد الله أن يأتي به لا بأس, لماذا من السماء ؟ ربما أخرجه من الأرض, ربما جاء به من المشرق أو من المغرب.
الجواب: في الحقيقة هذا فيه جهتان ــ حسب فهمي ــ لا اقل انه لا حاجة إلى أكثر من جهتين:
الجهة الأولى: انه المطلوب جهة العلو, السماء جهة علو, قدس الله روح الشهيد الثاني [ (1) ] يقول : السماء جهة العلو,نحن نريد العطية تأتي من فوق، والفوق في عالم المعنى له كثير من المعاني، الجانب الأعلى هو الجانب النوراني، والجانب الأسفل هو الجانب الظلماني، فإذن, هو يريد من عالم النور هبة، فالحق معه من هذه الناحية حينما قال: من السماء.
الجهة الثانية : في حدود فهمي, إن عيسى ( يدرك أن فوق السماء شيئاً، وان السماء ليست هي نهاية الكون, وإنما توجد مدارج عالية, ودرجات عليا فوق السماء بكثير, أعلى من السماء بحيث لا يقاس بالسماء أصلا ــ سبحان الله ــ فإذا جاءت الهبة من مدارج علياً جداً, سوف لن يتحملها الحواريون, تضرهم أكثر مما تنفعهم، لأنه لا يناسب استحقاقهم, ربما يموتون مثلا, أو أي شيء يصير بهم, أو يُجنون, أو يكفرون, المهم انه تضرهم ضرراً بليغاً، كذلك تفعل المواعظ بأهلها, يجب أن لا تصل المواهب من عالم عالي جداً, وإنما من عالم متدني عالم نوراني، لكنه نسبيا بسيط جدا, وهو السماء، أعطنا من السماء ولا تأتي لنا مما هو أعلى منها,لأن ذاك مضر، ربما نستطيع أن نقول إن عيسى بن مريم ( يتحدث عن نفسه: أنا أتحمله, لكنه الهبة للحواريين، والحواريون لا يتحملون ــ فآتى لنا من السماء ــ والله تعالى يعلم طبعاً كل ذلك, لكنه ــ حسب الظاهر ــ لأجل بيان ذلك إعلاميا نستطيع أن نسميه باللغة الحديثة.
[رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا] بطبيعة الحال المواهب الإلهية دائماً هي العيد هي الفرح حقيقة [فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا] (2) ليس إن الله تعالى [لا
__________
(1) زين الدين الجبعي العاملي, ولد 911, ت 965. له شرح على كتاب اللمعة الدمشقية للشهيد الأول محمد بن جمال الدين المكي العاملي ( 734, 786).
(2) سورة يونس : الآية 58.
يُحِبُّ الْفَرِحِينَ] (1) , هذا أيضا الذي قلته في خطبة الجمعة, يوجد فرح راجح ويوجد فرح مرجوح, فالفرح الدنيوي هو المرجوح, والفرح الأخروي هو الراجح. وهذا من سنخ الفرح الأخروي, وان كان ليس في الآخرة حقيقة,أي من سنخ المعنى وليس من سنخ المادة, لأن الآخرة نستطيع أن نقول إنها من سنخ عالم المعنى، إذن, فهذا من سنخ عالم الآخرة.
[تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ].
والآن لابد من معرفة [لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا] مَنْ هم؟.
أنا الذي كنت افهم منه, انه تكون لنا عيداً وفرحاً لأولنا وآخرنا,أي أنها معجزة ثابتة لكل أتباع المسيح ( إلى يوم القيامة, بكل أجيالهم من زمان الحواريين إلى يوم القيامة، ويوجد في القرآن إشعار على انه المسيحيين يبقون إلى يوم القيامة،, موجودون اليهود والمسيحيون [ (2) ], لا يؤمنون حتى بصاحب الزمان سلام الله عليه, قسم منهم وليس كلهم طبعاً ــ محل الشاهد ــ فتبقى حجة, لهم أو حجة عليهم إلى يوم القيامة, وهذا تفسير ظاهري, طيب: [لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا], أي أتباع المسيح (.
أو نقول: انه [لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا], أي من المؤمنين الذين هم على الحق دائما, وهذا أيضا صحيح وهو أوضح, وذلك لوضوح (لاحظوا) لوضوح أن المسيحيين الآن نسوا هذه الآية, لا يوجد إشارة في التوراة أو الإنجيل أو الكتب, أو حتى ارتكازهم المتشرعي ــ لو صح التعبير ــ على أية حال.
إن شيئاً من هذا قد حدث كأنما لم يحدث، فإذا لم يحدث إذن, نُسي فلا يبقى [لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا]، لأن الآخر أهمل هذه الجهة وتناساها وذهبت من باله بالمرة, وإنما فقط عيد لأولنا وليس لآخرنا ، فحينئذ يختص بأهل الحق بالمؤمنين.
***
__________
(1) سورة القصص : الآية 76.
(2) قال تعالى: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. سورة المائدة : الآية 64.
