(5)
بعد هذه الجولة التأريخية، نستطيع أن نتميز بوضوح ، الحياة السيئة التي عاشتها شعوب اوربا الغربية أعواماً متطاولة من الدهر، كما نستطيع أن نرى كيف أن الفتح الذي أحرزته الفئة المظلومة، لم يرد إلا لمصلحة الطبقة الثالثة التي تعاني انواعاً من الضنك والحرمان.
وعلينا فيما يلي أن بدأ بمناقشة هذا الإعلان على ضوء تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، مستعرضين في ذلك هذا الإعلان مادة مادة، لنستطيع ان نتميز بوضوح الفرق الشاسع بين الإسلام وبين الحقوق التي أثبتها هذا الإعلان، وكيف أن هذا الإعلان يتميز بضيق الأفق وقصر النظر، في حيث يتميز الإسلام بجميع تعاليمه بالعدالة والسعة والخلود. ولأجل أن يكون القارئ على إطلاع مفصل على اثر الروح لابرجوازية في هذا الإعلان، فسنذكر التفسير البرجوازي لكل مادة يمكن ان ينطبق عليها هذا التفسير، وتنص على ما تخلفه تلك الروح من أثر سيء في تعاليم هذا الإعلان ، ثم نتبعه بذكر التعاليم الإسلامية العادلة الخالدة.
ونحن بالطبع لا يهمنا إلا مناقشة هذه المواد السعبة عشر من الإعلان، لأنها هي التي تنص على حقوق الإنسان والمواطن كما تفهمها الطبقة البرجوازية، أما المقدمة فليس فيها ما يجلب الإنتباه، فكان ينبغي أن نهملها، وأن نبدأ بمناقشة المادة الأولى وما بعدها، لولا وجود بعض الملاحظات المختصرة فيها. والتي يمكن إيضاحها في يلي:
فقد أدعى أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية الواضعون لهذا الإعلان انهم نواب الشعب الفرنسي، وتلك حيلة إحتالوها على الشعب، لأجل أن يفرضوا آرائهم عليه بأدعاء أنهم ممثلون له، بدون أن يكون للشعب الفرنسي حق المناقشة والإعتراض. قود عرفنا فيما سبق انهم يمثلوا بوضعهم لهذا الإعلان إلاّ الطبيعة البرجوازية، على حين بقيت الأكثرية الساحقة من الشعب الفرنسي ترزح تحت نير الظلم والإستعباد.
ومن هنا يتضح جلياً أيضاً أن إدعاءهم في كون هذا الإعلان يتكفل بيان ((حقوق الإنسان الطبيعية المقدسة الثابتة)) إنما هو إدعاء فارغ يقصد منه الخداع والتمويه، وإلا فهو لا يمثل الا مصالح وآراء الطبقة البرجوازية.
ومن ناحية ثالثة فإن تعبيرهم عن الله عزوجل بالكائن الأعظم، ناشئ من انهم لا يدركون عن حقيقة وجود الله تعالى إلا أنه كائن أعظم وحسب. وذلك لأنهم لم يكن بإستطاعتهم أن يدركوا الأوصاف التفصيلية التي أضفاها الإسلام على خالق البشر (عز وعلا)، حتى بلغ بصفاته إلى قمة التنزيه والكمال .
وهذا التعبير قد إستعمله (روبسبير) وجماعته الذين قالوا : إننا نعبد الكائن الأعظم ، وهو وإن كان تعبيراً غامضاً عن الله (جل وعلا)، إلا انه يعبر عن وجهة تجريدية توحيدية في العقيدة الالهية. وهذه العقيدة مخالفة للتعاليم المسيحية الموضوعة التي كانوا يدينون بها، ويعيشون في بيأتها. وما مجاهرتهم بمثل هذا الرأي إلا للبداهة العقلية الفكرية التي يتميز بها وجود الله (عزوجل) ويتمثل فيها توحيده. مفضلين إتباع الحق على التقليد الأعمى للتقاليد المسيحية. تعضدهم بذلك روح التمرد والثورة التي إتصفوا بها.
وسنبدأ فيما يلي بمناقشة الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن، مادة مادة، على نفس النهج الذي ذكرناه آنفاً، راجين من الله حسن التوفيق، ومنك أن تتابع المناقشة إلى نهايتها بقلب رحب يعمره الحق والإنصاف، وعسى أن اكون بعد ذلك قد حزت شيئاً من رضاك وقناعتك، لأكون قد اسديت لك وإلى الإسلام خدمة متواضعة أردو من الله العلي العظيم أن يجعلها قربة لوجهة الكريم، انه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.