(2)
كان الإقطاع مكلكلاً على القارة الأوروبية، مسيطراً علىجميع شؤونها سيطرة تامة، متنفذاً فيها كما يشاء وكما يحلو له. بحيث ان المناطق الإقطاعية كانت تعتبر دولة داخل دولة ، فلكل منتطقة إقطاعية حاكم مستقل، وأنظمة مستقلة، وجيش مستقل، وبين هذه المناطق الإقطاعية من الحروب والدمار الشيء الكثير، لأن حياتهم كانت قائمةعلى الطمع بما في أيدي الآخرين والسيطرة عليهم بالقوة المسلحة.
والمجتمع الإقطاعي زراعي بالدرجة الأولى ، والطبقة الأكثرية فيه هم الفلاحون الزراعيون الإقطاعيون Serps ، وهؤلاء ليسوا إلاّ أقناناً ترتبط حياتهم بالسيد الإقطاعي من جهة، وبالأرض الزراعية من جهة ثانية، ومن ثم فهو يباع مع الأرض ويشتري معها، إذا صادف أن اشترى احد الإقطاعيين أرضاً من إقطاعي آخر.
تكون العلاقات بين الفرحين الأقنان وبين أسيادهم علاقات تعاقدية يستأجر الفلاح الأرض من مالكها لقاء محصولات عينية، ويقدم ألهدايا لسيدة في المناسبات المختلفة من حبوب ومخضرات ودواجن وخمور، كأن يتزوج إبنه أو يبلغ سن الرشد، وعلى الفلاح أن يقوم مع زملائه الفرحين بتأمين مواد الولائم التي يقيمها السيد الإقطاعي إذا قدم على المقاطعة ضيف كبير، وعلى الفلاح أن يقوم بتعبيد الطرق في وقت معين من السنة حين لا يكون هناك عمل زراعي، وان يخدم في جيشه لرد الغزوات الإقطاعية، وأن يدفع أجور عبور الجسر، وأن يمثل أمام محمة الإقطاعي، وأن يعصر خمره في معصرته، ويحطن حبوبه في مطحنته.
وللفلاح حق على السيد الإقطاعي ان يحميه، وانما يحميه بتكوين جيش منه ومن غيره، يكون السيد قائدهم ومنظمهم.
ولا يمكن ان يتحرر الفلاح من سيطرة سيده إلا باحد طرق ثلاث، إذا هرب من سيده مدة تزيد على سنة، او إذا انخرط في سلك رجال الدين، او إذا دفع ما عليه منديون وواجبات.
وكأن السبيل الثالث للتحرر هو الذي كان مطمح أنظار الفلاحين، لأنه ليس من السهل الهرب من دكتاتورية الإقطاعي مدة تزيد على السنة، ولا الإنخراط في سلك رجال الكنيسة الا تحت شروط معينة، فلم يبق إذن امام الفلاح القن إلا الشرط الثالث ليرى من طريقة نور الحرية، ويشم فيه نسيم الإستقلال العليل. ولم يكن من السهل على الفلاح القن المرتبط بأرضه، الذي يباع معها ويشترى، والمرتبط مع سيده بديون وواجبان أن يدفع هذه الديون ليتحرر من حكمه. ولكن قد تقع قريتهم على طريق تجاري صحراوي أو نهري أو بحري، فتأخذ مدينتهم بالإتساع، ويأخذ المال طريقه إلى جيوبهم، ويكونون بعد مدة من الزمن قادرين على دفع ما عليهم من ضرائب وديون مستغنين عن هذا الإرتباط الوثيق الذي كان يربطهم بالأرض أو بالسيد الإقطاعي، وحينئذ يبادر الفلاحون بتسليم ما عليهم من ديون للإقطاعي ويصبحون ولا علاقة لهم به، ويأخذون منه ((وثيقة حرية المدينة)) Charter يعترف الإقطاعي فيها أن هذه المدينة قد أصحبت حرة وليست لها علاقات إقطاعية.
وحيث ان الملك كان يخاف من سطوة الإقطاعيين عليه، فقد إعتمد على هذه الطبقة المتحررة من الإقطاع، والتي تسمى باللغة الإفرنجية Bourgeoisie أي طبقة البرجوازيين وصار حليفاً لهم وأصبح البرجوازيون يكونون جبهة قوية ضد الإقطاع. ولكن حدث – بعد مرور قرنيين – أن اصبحت البرجوازية قوية بحيث تهدد الملك نفسه، وذلك لأن الجيش الذي كان يمكن تكوينه من سكان المدينة هو جيش أكثر أموالا وسلاحاً وعدداً من أي جيش إقطاعي، ومثل هذا الجيش يكون خطراً حتى بالنسبة إلى الملك نفسه، وحينئذ إستند الملك على القوى الإقطاعية وحالفها – كما حدث بالفعل في فرنسا – ضد القوى البرجوازية.
ولاثورة الفرنسية إنما نجحت لأن البرجوازية في فرنسا كانت أقوى من الملك ومن رجال الإفطاع ، فكانت خطوة في إنتقال الحكم من الإقطاع إلى سكان المدينة (البرجوازيين))(1).
________________________________________
(1) محاضرات في التأريخ الحديث، التي ألقاها الدكتور فاضل حسين في الصف الرابع من كلية الفقه سنة 1961