والتي جاء فيها:
من الواضح جليا إن كل أرباب الأعمال وذوي الأملاك مهما كبرت أو صغرت يحتاجون إلى الحفاظ على ممتلكاتهم وأموالهم وتجارتهم وزراعتهم وصناعتهم إلى ما يسمى بالجرد السنوي من أجل معرفة الصادر والوارد وما إلى ذلك من ربح وخسارة وفائض وتلف وغير ذلك كثير ، قد يكون من المستهجن ذكرها لمعرفة الكثير بها فلا يكون هناك دافع لتعدادها .
فيلجئ التاجر بين الحين والحين إلى جرد إما أن يكون شهريا أو نصف سنوي أو سنوي أو حسب الحاجة إلى ذلك ، يراجع التاجر ما باع وما اشترى وما بقي عنده وما حصل عليه من ربح وخسارة وما إلى ذلك مما ذكرنا آنفا لكي يستعد للفترة المقبلة أو لنقل للعام الجديد بعد أن أكمل سنة كاملة من الربح والخسارة .
ولا يخفى إن ذلك في مصلحة التاجر لكي يعلم ما له وما عليه وليتعظ من الأخطاء التي وقع فيها عامه السابق ، بل وليتابع ما أقدم عليه في سنته الماضية من أعمال أدت إلى الربح الوفير والنتاج الجيد .
ولا يقتصر ذلك على التاجر فالمزارع كذلك يتبع نفس ما اتبعه التاجر ، فيوثق ما حصل عليه من نتاج زرع كالتمر أو الحنطة أو الشاي أو الأرز أو غيرها من المنتوجات الزراعية التي عكف عليها طيلة السنة الزراعية التي أنهاها بتعب وعناء ليحصل على هذا النتاج الطيب الذي ليس حكرا عليه فقط .
بل هو أول المستفيدين من النتاج وليس آخرهم فالكل سيأكل من هذا النتاج ، لذا كان لزاما على المزارع أن يكون له جرد سنوي لنتاجه ولما حصل عليه من ربح ولا ينسى في ذلك الخسائر التي أتلفت بعض محصولاته ، أو الأسمدة التي نفعته في إحياء أرضه وزرعها ، هو لا يغفل أيضا إلى خصوبة الأرض وإمكانية الزرع فيها العام المقبل .
ولو دققت النظر لوجدت إن هذا هو ديدن الجميع يعمل به كل ذي عقل وكل ذي نظر ، وهو مما لا يستهجن عرفيا واجتماعيا وتخصيصا البته ، بل هو أمر مرغوب ومقبول عقلا وشرعا ، ولعل بعض الأحكام الشرعية متعلقة به . أعني كونه مقدمة لبعض التكاليف الشرعية المتعلقة بالمكلفين ، وإذا كان هذا التكليف واجبا والجرد مقدمة له ، فسيكون الجرد مقدمة للواجب فيجب من باب وجوب تحصيل التالي .
وأوضح مثل لذلك ، الزكاة والخمس ، فلو أردت دفع الزكاة بنفسك أو بواسطة الجباة الذين يعينهم الحاكم الشرعي أو الولي العام أو من نصبه وما شابه ذلك ، فانك ستحتاج إلى جرد كلي لتعرف ما لديك من نتائج حتى تعلم ما عليك من الخمس أو الزكاة التي تتعلق بالغلاة الأربعة أعني : ( الحنطة والشعير والتمر والزبيب ) أو بمجرد الأموال العائلية أو التجارية لتعلم ما عليك من خمس سنوي أو فوري لتدفع إلى الحاكم الشرعي أو تتصالح معه عليه .
فيا أيها الإخوة الأعزاء لا تستغربوا أو تستهجنوا ما ذكرت من تفاصيل لعل البعض أعلم بها مني لكثرة تجاربه أو لانخراطه بنحو من الأنحاء فيها فبعضكم تجار وبعضكم مزارعون وبعضكم يدير المؤسسات التي أيضا بدورها تحتاج إلى نفس الجرد بل ويكون ذلك على صعيدين :
الأول : الصعيد المالي ، وهو لا يفرق كثيرا عما ذكرنا آنفا ، فتلك المؤسسات الثقافية والمدنية وغيرها تجرد الوارد والصادر لتستعد لعام جديد من الخدمة لمجتمعها ولنفسها أيضا . بطبيعة الحال ...
الثاني : إن تلك المؤسسات تحتاج إلى جرد أعمالها الثقافية مثلا ، وما قدمت للمجتمع من أعمال وما ستقطفه من نتاج لتلك الأعمال ، فتلك المؤسسة الثقافية لا تقوم ولا تكون إلا بالأعمال الثقافية ، ولا تتوسع إلا بتوسع نتاجها وثمارها وكثرة أعمالها الثقافية المنتجة والمفيدة للمجتمع .
بل وأن هناك جرداً آخر لتلك المؤسسات ، وهو جرد ما حققت من أهداف هي قد وضعتها وعلى أسس عقلية وشرعية تسعى إليها طيلة وجودها وقيامها في المجتمع ، فإن كانت طالبة هداية المجتمع ، فترى إن أعمالها هل أنتجت هداية للمجتمع أم نفورا منها وبعدا عنها وخلو ساحتها من المحبين والمناصرين وما إلى ذلك من متعلقات لا أريد ذكرها هنا حتى لا أجرح مشاعر بعضكم .
عموما أحبتي ، فهذا كله مرضي عقلا ونقلا بل ومطلوب على الصعيدين العقلي والشرعي بل والاجتماعي والعرفي أكيداً ... لكني سوف لن أكتفي بهذه الخطوة أيها الأحبة ، فهناك ملاحظة أخرى ربما خفيت على البعض منكم ، فلا بد أن أنبهكم إليها وأوضحها لكم .
وخصوصا إن المجتمع العراقي سريع التلقي وسريع الفهم عادة ، على الرغم أنه يواجه الكثير من المشاكل والمصاعب وبينه الكثير من المرجفين والمنشقين والمسيئين الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويؤولون ما نقول أو ما قيل من مراجعنا الأعلام أو من شهدائنا الأبرار أو حتى المعصومين سلام الله عليهم ، فأرجو منكم أيها الأحبة أن تكونوا سماعين للخير وفي نفس الوقت تصمون أذانكم عن الشر ، ولا تكونوا أتباع هوى أو أتباع عاطفة بل عقل وتعقل لعلكم تفلحون .
مما أردت الالماع إليه وذكره في هذه الخطبة ، إن ما ذكرنا على الرغم من أنه مطلوب دنيويا ، إلا أنه قد يكون مستهجنا وغير مرغوب به بنظر البعض الآخر وخصوصا أهل المعرفة والأخلاق والباطن إن صح التعبير ، فان هذا الجرد في نفسه صحيا ولكن من المستهجن أن تجرد أمورك المادية التجارية والزراعية تاركا خلف ظهرك الجرد الحقيق أعني به محاسبة النفس على أعماله الخيرة والسيئة على حد سواء على الرغم من ان التجاهر بالأعمال الخيرة هو الرياء بعينه ، بل والجهر بالسوء ايضا لا يكون مطلبا ، فالمقصود من كلامي محاسبة النفس بينك وبين ربك عسى ان تكون بابا للصلاح والهداية والاصلاح فيما بعد .
فان أي إنسان يسعى الى الكمال يحتاج الى محاسبة نفسه بين الحين والاخر ليعلم ما صنع من خير وما صنع من شر والأغلب هم ممن خلطوا عملا وصالحا وآخر سيئا فلعل ذكر الخير من الأعمال بينه وبين ربه يكون باب للثواب او مضاعفته ، وذكر السيء والندم عليه والمعاهدة على عدم تكراره سيكون بابا للتوبة ولو تدريجيا ، وحسب علمي اننا جميعا نريد من الاعمال الصالحة التي نقوم بها ثوابا ربانيا أخرويا لا دنيويا وكلما كثر وتضاعف سيكون مبعث فرح لنا اكيدا ، ولعل الكثير منا يفعل ما هو غير صالح ويندم علية فيذكر ذلك بينه وبن ربه بمحاسبة نفسه او بمناجاة بينه وبين محبوبة فيكون باباً لعدم تكرار هذا السوء او هذا الذنب كبر او صغر .
فسبحان الله الذي لم يغادر لا كبيرة ولا صغيرة الا أحصاها ، فلا تشك يوماً بل ولا للحظة ولا لجزء منها ،ان ذكرك للمحاسن والمساوئ هو لخفائها على الله سبحانه وتعالى بل هو يعلم السر وما يخفى ويعلم ما تسوس به نفسك وما يمر بذهنك وقلبك.
بل ان ذكرك لها إنما هو لفائدة لك ولن ينال الله منها شيئا، غير توبتك وثوابك وما إلى ذلك من أمور هي لصالحك ليس ألا ، ولذا فإنه سبحانه وتعالى جعل ليلة القدر ليلةً تتنزل الملائكة والروح فيها الى مطلع الفجر ترفع فيها أعمالنا الصالحة والطالحة , فهي نوع من أنواع الجرد الإلهي ( إن جاز التعبير ) ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسجزي الله الشاكرين .
وفي هذه الليلة اعني ليلة القدر التي هي خير من الف شهر نكون كسجل او كتاب مفتوح كتبت كل اعمالنا طيلة السنة الماضية ,, فويل للذي كثرت وثقلت موازينه الباطلة والطالحة والسيئة من عذاب اليم قد تترتب عليها البلاءات الكثيرة والعقاب العظيم في السنة القابلة فضلاً عن ما يترتب عليها من عقاب في يوم الحشر والنشر .
وويل لمن اتبع هواه فتردى , وكان خائنا لنفسه وللآخرين , فظلم نفسه وغيره ونشر ظلمه وسيئاته وزرعها في قلبه ونفسه وعقله ومجتمعه وشعبه , فانه سيحصد سوء ما فعل عقابا وبلاءا وتسافلا ودنوا في الدنيا والآخرة , افتريد ان تكون ممن ملئ كتابه وسجله بتلك الأعمال السيئة كترك الصلاة والتغافل عنها والتجاهر بالإفطار او التهاون في القيام به او الاعتداء على الآخرين وقتل الأبرياء او الكذب والرياء والسمعة وحب المال والابتعاد عن ذكر الله والتمسك بالدنيا واللعب واللهو .
أحبتي اغتنموا حياتكم وصحتكم وليلة قدركم للتوبة وفتح صفحة جدية لعام جديد بل لأعوام جدد بل لحياة جديدة تكونوا فيها أحرارا من أنفسكم الأمارة بالسوء فلا تكونوا عبيدا لها ،واعملوا صالحا ليرفع عنكم ربكم البلاء الدنيوي والأخروي معا ،ومن ذكر الله في الرخاء ذكره الله في الشدة فاذكروا الله قبل أن تندموا على أفعالكم بعد فوات الأوان .
فليلة القدر أرجو ان تكون لم تفتكم كما ربما قد فاتتكم الليلتين السابقتين من ليالي القدر او لعلها لم تفتكم فأتموها لعلكم تفلحون او لعلكم ترزقون ثوابا دنيويا وأخرويا فتتكاملوا تدريجيا وكفاكم بعدا عن الله وذكره وتسبيحه وطاعته فما أجمل ان يكون العبد محبا لكل ما يحب معبوده ومعشوقه ، وباس العبد الذي ينفر من تلك الطاعات ولا ينفر بل يتعلق بالدنيا وزخرفها وشهواتها وأحزابها وكراسيها ويتعلق بها ولا ينفك عنها ولا يتنازل عنها , الدنيا زائلة وما عند الله خير وأبقى ، فاكرر وأقول : لا تتمسكوا بالقشور تاركين اللب المفيد .
ومن جد وجد ومن زرع الصالحات حصد منها ومن زرع الباطل وقع فيه وتسافل والعياذ بالله، واني على يقين إنكم إذا أطعتم الله حق طاعته وتركتم المعاصي فإنكم ستنعمون بالأمن والأمان والاستقلال وتنعمون بالكهرباء والماء ، فحيا الله المؤمنين المطيعين لربهم المحبين لشعبهم الذين سيكونون بابا للرخاء وحيا الله المتظاهرين من اجل الكهرباء والخدمات وتبت الأيادي التي تمتد لقتلهم وتفريقهم وهي أيادي أشبه بأيادي البعث الصدامي الكافر .
وعلى الرغم من المعاناة التي نعيشها نحن العراقيون من نقص ماء وكهرباء وخدمات وامن وأمان وكثرة تفجيرات وارهاب واحتلال فاننا لابد ان نكون ممن يؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة ، فلا ننسى إخوتنا في الإنسانية والإسلام في باكستان ممن يعانون من البلاء الشديد جراء الفيضان الأخير الذي أودى بالكثير منهم وشرد الملايين فهم بين مشرد وجائع ومريض ، فلا تنسوهم بالدعاء لعل الله يرفع عنهم وعنا البلاء وكونوا كالجسد الواحد اذا تداعى عضوا تداعى له سائر الجسد .
فلنرفع ايديانا نحن العراقيون المجاهدون الصابرون بالدعاء لأهلنا في باكستان فقولوا بعد كل فقرة يا الله : اللهم ان فيهم الجائع فأشبعه من رزقك – اللهم ان فيهم العريان فاكسه من رحمتك –اللهم ان فيهم المريض فاشفه من لطفك –اللهم ان فيهم المشرد فاوه في كهفك –اللهم ان فيهم الضال والضائع فاهدهم بهدايتك – اللهم وادخلهم حصنك الحصين – وارفع عنهم البلاء المبين – واجعلهم من الصابرين – وأيدهم برحمتك يا ارحم الراحمين .
مقتدى الصدر