بسم الله الرحمن الرحيم
مقامه العلميّ
كان العبّاس بن عليّ عليهما السّلام عالماً، ويكفيه شهادة أهل البيت عليهم السّلام بالقول: إنّه زُقّ العلمَ زقّا.. وشهادةُ أهل العلم، ومنهم: الشيخ عبّاس القمّي، المحدّث المحقّق الذي قال فيه: ويظهر منه ( أي الحديث المروي عن الإمام الباقر عليه السّلام ) أنّه كان عند وفاة أمير المؤمنين عليه السّلام على درجة رفيعة ومرتبة عظيمة من العلم والجلالة، مثل أخيه؛ محمّد بن الحنفيّة(1).
والشيخ عبدالحسين الحليّ، حيث قال: كان العبّاس من أكابر فقهاء أهل البيت وعلمائهم وعظمائهم، وانّه كان ناسكاً عابداً وَرِعاً، بين عينَيه أثر السجود، ووجهه كفِلقة القمر ليلة البدر، يعلوه نور لم يغيّر ولم يقلّل القتلُ منه شيئاً(2).
وقد عاش أبو الفضل العباس سلام الله عليه في بيت الرسالة، وعاصر أربعة أئمّة هداة، هم: أبوه الإمام عليّ، وأخواه الحسن والحسين، وابن أخيه زين العابدين صلوات الله عليهم أجمعين. أمّا أُخته التي لم يفارقها، وهي العالمة الفاضلة الجليلة.. فزينب الكبرى ثانية أُمّها الزهراء البتول عليها السّلام، ولم يفرّق بينهما إلاّ السيف الذي قطّع أوصال هذا الأخ الغيور الذي تعهّد في حِفظ كيانها الشريف.
ولتواجد العباس عليه السّلام بين أئمّة الهدى عليهم السّلام طوال عمره الشريف، لم يظهر للناس مقامه العلميّ الرفيع، وهو الذي يتحلّى بالأدب العالي.. فلا يسبق إخوته بحديث ولا يقاطعهم بكلام، وكان يعظّمهم ويجلّ إمامتهم، فكيف يستطيع مع وجودهم أن يملي علومه ؟!
لكنّ ألمع علوم أبي الفضل العبّاس عليه السّلام وعيُه لمرتبة الإمامة، ومعرفته ما يجب عليه تجاهها وما ينبغي له من التسليم والاتّباع وهو الذي وهبه الله تعالى بصيرة نافذة وقلباً مؤمناً وروحاً محلِّقة في آفاق التقوى والمكارم والفضائل. فبذل عمره في طاعة الخلفاء الشرعيّين، حتّى بذل مهجته بين يدَي إمامه ناصراً له وثابتاً عند تكليفه الحقّ، مطيعاً بذلك لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى قال فيه الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام: رحم اللهُ العبّاس.. فقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتّى قُطعت يداه... وإنّ للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلةً يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة(3).
وقال الإمام الصادق عليه السّلام فيه: كان عمُّنا العبّاس نافذَ البصيرة، صلب الإيمان. جاهد مع أبي عبدالله الحسين عليه السّلام وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً(4).
وفي زيارته خاطبه الإمام الصادق عليه السّلام: السّلام عليك أيّها العبد الصالح، المطيعُ لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السّلام... فجزاك الله أفضلَ الجزاء، وأكثر الجزاء، وأوفر الجزاء، وأوفى جزاءِ أحدٍ ممّن وفى ببيعته، واستجاب له دعوته، وأطاع ولاة أمره. وأشهد أنّك قد بالغتَ في النصيحة وأعطيتَ غاية المجهود... وأشهد أنّك لم تهن ولم تنكل، وأنّك مضيت على بصيرة من أمرك، مقتدياً بالصالحين، ومتَّبِعاً للنبيّين، فجَمَعَ اللهُ بيننا وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المُخْبِتين، فإنّه أرحم الراحمين(5).
وواضح أنّ أبا الفضل العبّاس سلام الله عليه برزت فيه فضيلتان فاخرتان: الشجاعة مقرونةً بالهداية، والعلم الخاصّ الذي أدرك به المسؤولية تجاه الإمامة المعيّنة من الله تعالى في أمير المؤمنين وأولاده الأمناء المهديّين صلوات الله عليهم أجمعين.
وهذا ليس بقليل في آفاق العلم، وكان أحدَ أسرار جهاد أبي الفضل العبّاس وشجاعته وثباته سلام الله عليه في أرض الطفّ بكربلاء حتّى شهادته السامقة التي يُغبَط عليها.. وهو على درجة اليقين لمّا أتاه اليقين.. فتأتي عبارات زيارته من فم الإمام الصادق عليه السّلام مثلاً في ليلة القدر:
ـ السّلام عليك أيّها العبد الصالح، المطيع لله ولرسوله، أشهد أنّك قد جاهدتَ ونصحت وصبرتَ حتّى أتاك اليقين(6).
وفي زيارة أخرى:
ـ السّلام عليك أيّها الوليّ الصالح الناصح الصدّيق، أشهد أنك آمنت بالله، ونصرت ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله، ودعوتَ إلى سبيل الله، وواسيتَ بنفسك وبذلت مهجتك، فعليك من الله السّلام التامّ (7)..
وتلك مقامات: إيمانيّة روحيّة، وعلميّة معرفيّة، وأخلاقيّة وجدانيّة.. هي من شؤون الأولياء الصالحين والعارفين.
_____________
1 ـ سفينة البحار، للشيخ عبّاس القمّي 392:3 ـ باب عبس.
2 ـ النقد النزيه، لعبد الحسين الحليّ 96 ـ 97.
3 ـ أمالي الصدوق 374، حديث 10 ـ المجلس 70.
4 ـ سرّ السلسلة العلويّة، لأبي نصر البخاريّ 89.
5 ـ كامل الزيارات، لابن قولويه 258.
6 ـ مفاتيح الجنان، للشيخ عبّاس القمّي ـ باب زيارته عليه السّلام.
7 ـ المزار الكبير، للشيخ محمّد بن ا