(3)
كان هذا وضعاً مختصراً للأوضاع السائدة في القارة الاوربية بصورة عامة عدة قرون متطاولة من الزمن.
اما الأوضاع في فرنسا نفسها، تلك الأوضاع التي أدت بصورة مباشرة إلى قيام الثورة الفرنسية ومن ثم إلى إصدار إعلان حقوق الإنسان والمواطن، والتي كانت ماثلة أمام واضعي هذه القانون يعيشون تفاصيلها ويعلمون بمشاكلها ويدبرون في اذهانهم حلولها.
فكانت تتلخص كالاتي: كان الشعب الفرنسي – ككل مجتمع إقطاعي – مقسماً إلى ثلاث طبقات :
الطبقة الأولى : طبقة الأسياد الإقطاعيين.
الطبقة الثانية : طبقة رجال الدين، أتباع الكنيسة المسيحية.
الطبقة الثالثة : وتسمى الطبقة الثالثة أو العوام.
وتتكون الطبقة الثالثة من
أ- البرجوازية
ب- الفلاحين
ج- العمال
د- أصحاب الحرف .
وكان عدد نفوس فرنسا حينما نشبت الثورة الفرنسية 26 مليوناً، منهم نحو مليون نسمة عدد نفوس الطبقتين الأولى والثانية، والباقون يكونون الطبقة الثالثة، والرجوازية هي زعيمة الطبقة الثالثة.
كانت الضرائب تسن، وطلبات الملك المالية تلبي، بواسطة مجلس يسمـــــــــى مجلس الطبقات العامــــــــــة ((Estates General )) وذلك قبل حوالي قرنين من الثورة الفرنسية. وكانت الطبقات الثلاثة ممثلة فيها بالتساوي لكل طبقة 300 نائب، رغم ان الطبقة الثالثة تكون 95 بالمئة من الشعب.
وكان التصويت في المجلس يجري على أساس طبقي، فلكل طبقة صوت واحد فقط. فإذا أحتاج الملك إلى المال وأراد فرض الضرائب على الطبقة الثالثة للحصول عليه، فلا بد ان يستشير هذا المجلس بالموضوع، وحيث ان الطبقتين الأوليتين لا تفرض عليها الضرائب لأنها كانت محتكرة للإمتياز لنفسها دون الطبقة الثالثة، فإن التصويت عندما يجري في المجلس على فرض الضرائب، يحصل الملك على صوتين في مقابل صوت واحد وهو صوت الطبقة الثالثة. ومن ثم يصدر التشريع بأكثرية الصوتين وتسن الضريبة على الطبقة الثالثة. كان مجلس الطبقات هذ1 موجوداً في زمان (هنري الرابع) من أسرة (بوربون)، ولكنه عندما توفي وخلف إبنه (لويس الثالث عشر) وكان قاصراً، قات أمه (ماري ميتشي) بالوصاية عليه. وقد ذهبت ف يوم من الأيام إلى بناية هذا الجلس وأمرت أعضاءه بالإنصراف قائلة: إننا نحتاج إلى ساحة للرقص! فذهب النواب ولم يرجعوا، وذلك في سنة 1614.
وبعد مضي 175 سنة، تمضي على حل هذا المجلس، يحتاج الملك (لويس السادس عشر) إلى المال، ويضظر إلى معالجة الوضع الإقتصادي المتردي في فرنسا، فيستشير الملك كبار الإقتصادينن وهم من الطبقة البرجوازية، ولهم إتجاه مالي معين ويسمون بالفيوقراطيين أي الطبيعيين. فيشيرون عليه بأن يقتصد في مصاريف الشعب والبلاط، وأن يجمع الضرائب من الشعب بموافقته. ولكن(ماري انطوانيت) زوجته رفضت الإقتصاد بالمصاريف، فلم يبق إلا فرض الضرائب على الشعب .
وكذلك إستشار ألملك مجلس الوجهاء ((Assembly of the Notables)) وهو مجلس يتكون من 145 عضواً، فقالوا له إن صاحب الحق الشرعي في فرض الضرائب هو مجلس الطبقات العامة، ثم إستشار المحكمة العليا Partement of Paris فقالوا له إنه لا يمكنه جمع الضرائب إلا بإشارة مجلس الطبقات. وحينئذ أجريت الإنتخابات في فرنسا لإنتخاب المجلس الجديد، بعد أن أدخل على المجلس تعديلاً يقضي بجعل عدد ممثلي الطبقة الثالثة 600 شخصاً، مع بقاء عدد ممثلي الطبقتين الأوليتين 300 شخصاً، على أن يكون التصويت بالطبقات أيضاً وتقرر إجتماع المجلس في 5 مايس عام 1789 . واجتمع مجلس الطبقات العاة الجديد، مكونا من 1200 عضوا، والقى الملك خطاب العرش، وطلب منهم تقديم القترحات . ثم طلب الوزير أن يفترق الجمع لتذهب كل طبقة إلى محلها الخاص فرفضوا الإقتراح، ثم أعلن جماعة من ممثلي الطبقتين الأوليتين تنازلهم عن حقوقهم وامتيازاتهم في سبيل الصالح العام، وتأييداً للطبقة الثالثة.
ويمكن أن يعزى هذا التأييد إلى عدة عوامل : فسم من ممثلي الطبقتين الأولى والثانية كانوا مقتنعين بفساد الوضع وأنه يحتاج إلى إصلاح، وقسم آخر قالوا بأن الوضع سيتغير فمن الرأي الصائب أو يؤيدوا الطبقة الثالثة ليكونوا زعماء الوضع الجديد . وقسم ثالث كانوا في إقتصاد سيئ رغم كونهم من الطبقة الأولى أو الثانية، فكانوا مستائين من اصحاب اللقب، الاغنياء، فوجدوا في ذلك سبيلاً للانتقام منهم.
ثم ان هؤلاء النواب إجتمعوا وأقسموا على أن يخدموا الشعب ويضعوا دستوراً للبلاد. ولما كان الدستور لا يمكن أن يضعه مجلس الطبقات العامة بل الجمعية الوطنية التأسيسية، بدلوا الاسم ليضعوا دستوراً للبلاد ، وهكذا تكونت الجمعية الوطنية التأسيسية وقد بدأت أعمالها في يوم 5 تموز سنة 1789 . هذه الجمعية الوطنية التأسيسية بالذات هي التي أصدرت إعلان حقوق الإنسان والمواطن في يوم 26 آب سنة 1789، بعد أن كانت الثورة الفرنسية قد بدأت بالهجوم على الباستيل في يوم 14 تموز من العام نفسه(1).