بسم الله الرحمن الرحيم
(1)
ليس التفكير في حقوق الإنسان، وإدراك أن الظلم والتعسف ناشيء من غمط حقوقه، وإحتقار كرامته، ليس هذا التفكير حديثاً بالنسبة إلى العهود التاريخية المتأخرة. فقد حدثت في مختلف البلدان إضطرابات سياسية وثورات على الأوضاع الفاسدة، تمخضت عن شكل وآخر من لوائح حقوق الإنسان، فم أقدم اللوائح البريطانية ((العهد الأكبر)) The Magna Corta الصادر في سنة 1215 حين إضظر البارونات الثائرون ملكهم جون John على توقيع العهد المذكور الذي يحتوي على وعود كثيرة(1)، ومنها ((عريضة الحق)) Petition of Right التي أصدرها البرلمان البريطاني سنة 1628 في مقابل منح الملك ((شارلس الأول)) المخصصات المالية التي يطلبها(2) ، ومنها ((لائحة الحقوق)) Bill of Rights التي أصدرها البرلمان البريطاني سنة 1689 على إثر الثورة البضاء التي نشبت هناك والتي تسمى ((بالثورة المجيدة))(3) Glorious revolution
________________________________
(1) محاضرات في التأريخ الحديث
(2) نفس المصدر
(3) نفس المصدر
ومنها (( عقد التسوية)) ACT of Settlement وهو أيضاً وثيقة صدرت في عهد وليم الثالث سنة 1701 على يد الحكومة الفاشية يومئذ(1).
ولكن هذه الوثائق الدستورية كلها، وهي وثائق سياسية بحتة، لم تتعرض إلى حقوق الإنسان –بشكل عام – بقليل ولا كثير . ولقد كانت الومضة الأولى في إثبات حقوق الإنسان والتمسك بكرامته وإنسانيته بالنسبة إلى اوربا الغربية هو ((إعلان حقوق الإنسان والمواطن))الذي أصدرته الجمعية الوطنية التأسيسية في يوم 26 آب سنة 1789 بعد أن كانت الثورة الفرنسية قد بدأت في 14 تموز من العام نفسه، ومن ثم فقد إحتلت هذه الوثيقة في فرنسا وفي سائر البلاد الاوربية مركزا ساميا، واصبحت في نظر شعوبها نبراساً يقتدى به، وأثرت في الفكر السياسي العالمي خلال القرن التاسع عشر والعشرين، وعلى أصولها ترتكز اليوم فعلاً دساتير الأمم الحرة في أوربا وفي سائر انحاء العالم (2) . ولكن الزمان بعد ان تصرّم قليلاً قليلاً بعد صدور هذا الإعلان الذي كان فاتحة خير في إثبات حقوق الإنسان، ونصراً مبيناً للطبقة البرجوازية الفرنسية التي كانت قبل صدوره مظلومة مغموطة الحقوق
__________________________
(1) المذاهب الإجتاعية الحديثة ص36
(2) محاضرات في التاريخ الحديث
بدأت تظهر للعيان ما يحتويه هذا الإعلان من الأخطاء والنواقص، وبدا واضحاً ان حقوق الإنسان أعقد وأعمق من أن يحيط بها هذا الإعلان المقتضب المتكون من سعبة عشر مادة. كما أنه بدا واضحاً ان الجماعة التي وضعته وإن إدعت أنها قد وضعته ((ليكون هذا الإعلان راسخاً في أذهان بني الإنسان يذكرهم على الدوام بحقوقهم وواجباتهم))، إلا أنها لم تقصد به إلا مصالحا البرجوازية الخاصة، والطرق التي تضمن من خلالها لاحصول على أكبر فرصة لتوسيع التجارة والصناعة إلى أعظم حد ممكن، وإكتناز المال جهد الطاقة والمستطاع. ثم لا يهممها بعد ذلك مصالح الطبقات الدنيا من الشعب التي تمثل اكثريته الساحقة من العمال والفرحين وأصحاب الحرف وغيرهم، بل إنه صار من المعلوم بعد ذلك ان هذه الحرية التي نالوها عن طريق هذا الإعلان كانت سبباً في التحكم في العمال، وإرهاقهمفي العمل مدة 14 ساعة في اليوم، ثم إعطائهم أقل كمية ممكنة من الأجر.
وقد أحس الشعب الفرنسي نفسه بما في هذا الإعلان من الخطأ ولاقصور، ومن ثم نراه قد غير مراراً فلي ظل الملوكية والجمهورية(1) تلافياً لما سببه من كوارث وأضرار.
___________________
(1) المذاهب الإجتماعية الحديثة ص35
ومن هنا فقط يظهر الفرق جلياً واضحاً بين هذا الإعلان لحقوق الإنسان، وبين حقوق الإنسان التي أكد عليها الإسلام ضمن ما أكد عليه في قانونه الخالد العظيم . وما في الإعلان الفرنسي من ضيق بالأفق وقصر في النظر، وما في القانون الإسلامي من عدالة وشمول يضمن بها سعادة البشرية ورقي الإنسان في مدارج الكمال . فالإعلان الفرنسي متناول لبعض حقوق الإنسان التي دعت إلى التأكيد عليها الحاجة الملحة القائمة حين صدوره، وأما الإسلام فهو الدين الشامل لكي جزيئات الحياة، يتابع الإنسان في جميع أقواله وأفعاله، وفي جميع علاقاته وتصرفاته، ويملي عليه التوجيه والإرشاد ما دام موجوداً على سطح الأرض. وإعلان حقوق الإنسان قد وضعته أذهان بشرية قاصرة عن إدراك مصالحه الروحية وكمالها الحقيقي، وأما الإسلام فهو الدين الإلهي الذي أرسله خالق البشر والمنعم عليهم إلى الناس أجمعين، وهو العالم بحقيقتهم والمطّلع على حوائجهم ومشاكلهم، وبالطريق الصالح الذي يتم فيه حل هذه المشاكل والتوافق التام بين البيأة والغريزة، أرسله إليهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
كما أ، إعلان حقوق الإنسان الفرنسي أيضاً، قد وضع لصالح طبقة معينة من البرجوازيين ليضمن حريتهم ورفاههم، ولم يكن يضمن في حساب واضعيه من مصالح سواهم القليل ولا الكثير. في حين ان الإسلام قد جاء ليخدم البشرية جميعاً بدون تمييز ولا تفريق، لا فرق لديه بين غني وفقير، ولا بين ذليل ووضيع، كلهم ينعمون تحت لواءه بالسعادة والرفاه ضمن مجتمعهم الإسلامي السعيد.
وإعلان حقوق الإنسان الفرنسي قد تكشفت فيه كثير من جهات القصور والنقص، وأما الإسلام فهو الدين الإلهي العادل الشامل الخالد الذي لن تبلي حدته الأيام ولن يذهب برونقه الزمان، وسوف يبقى مع البشرية ما بقيت ولو كره المشركون.
ولأجل أن يبدو بوضوح تام كيف أن إعلان حقوق الإنسان أنما صدر لمصلحة حفنة معينة من البرجوازيين ، لا بد من التعرض بإختصار إلى الظروف العامة والخاصة التي أحاطت بصدوره، والملابسات التي إضظرت الجمعية الوطنية الفرنسية إلى وضع مثل هذا الإعلان.